&تؤشر الاحداث المتتالية في عراق اليوم ان السياسات العامة التي تقوم عليها حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي لا تفقه شيئا في التعاطي مع ما يدور حولها من احداث لانه حينما لا تكون معطيات معادلة مثلث السلطة في العراق الجديد قادرة على الحفاظ على ثوابتها الوطنية، فان أي حديث عن مؤتمرات للمصالحة لا تكون الا مجرد كلام زائف لذر الرماد في العيون، ولا تبدو الأمور تتجه الى مصالحة اجتماعية كبرى في المنطقة العربية وهي تواجه هذا الاضطراب الكبير للفوضى غير الخلاقة، التي تعبر عن نموذجها للتنافس الدولي.

&وهكذا مثلت فوضى صناعة القرار العراقي نعا من المدخلات خارج العادة المفترض ان تكون عليها السياسات الحكومية، فتحولت في عراق اليوم الى نماذج من السياسات الحزبية عبر المحاصصة الطائفية والقومية وأيضا الى نوع مغاير من السياسات التي تفرض من امراء الحرب، ناهيك عن ضغوط أصحاب المصالح من كبار الفاسدين على حساب المال العرق والحكومة تواجه حاجات مالية ملحة بسبب انخفاض أسعار النفط.

وفي الدراسات الاكاديمية، كما قرأنا طلابا في كتب العلوم السياسية، فان المجتمعات تؤسس نظام دولة - المدينة من خلال مثلث يوظف العلاقات المجتمعية ما بين قوة السلطة ومصالح المال ممزوجة بانصياع الفرد الى الفكر الغيبي الذي يفسر بشعارات طوطمية، واليوم تحول هذا المثلث الى نماذج من قوة السلطة ما بين المشروعية الدستورية والمشروعية النافذة من خلال الأفكار الشمولية ما بين الفكر الشيوعي "الثوري" او تلك الأفكار القومية الاشتراكية او الاسلاموية، لكن هذا التغير لم يلغ حقيقة مصالح رجال المال وعوائلهم، فيما يتجه النموذج الغيبي الى هالة من الأفكار الدينية التي توظف من قبل من يصفهم المرحوم علي الوردي، مفكر العلوم الاجتماعية العراقي البارز، بانهم " وعاظ السلاطين".

&هذا التنافس الذي بدأ في الحضارات القديمة على الماء والكلأ، وسردت معلقات الشعر العربي بطولات الفرسان وهم يقاتلون من اجل سلطة القبيلة، سرعان ما تحول الى نماذج متجددة من المنافسة الدولية، ما بين الأفكار الشيوعية والليبرالية الرأسمالية حتى انتهت الى سقوط جدار برلين، لكي تبدأ صفحة حرب الأفكار ما بين الإسلام السياسي وبين مصالح الغرب بقيادة واشنطن بصور واشكال متعددة جسدت في صورتها النمطية في الحرب عل الإرهاب ما بين تنظيم القاعدة الدولي وبين قطار الغرب بقيادة واشنطن ومن يركب معها، وانتهى اليوم الى نموذج الحرب على تنظيم داعش ودولة الخلافة الإسلامية المزعومة.

&اليوم تظهر المؤتمرات مرة بمبادرة من عمار الحكيم، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى ومرة أخرى من طاولة مؤتمر المحافظات السنية الست وثالثة عبر مبادرات إقليمية ودولية لرعاية الحرب على تنظيم داعش، لكن أي منها لا يقدم للمواطن العراقي النوع المطلوب من العقد الاجتماعي الذي يؤسس لدولة لها سيادة وطنية قبل الاعتراف بها دوليا وإقليميا.

&كل ما تقدم مطلوب وضعه على طاولة اية مفاوضات للمصالحة، سواء ما بين واشنطن وطهران على ملفها النووي، او ما بين السعودية وايران على نفوذهما الإقليمي، او ما بين من يصفهم الدستور العراقي ب"مكونات اجتماعية" وحتى ما بين اللبنانيين او السوريين، لان الوحدة السياسية لبناء الدولة لن تتجاوز اضلاع هذا المثلث الاجتماعي، واي تعامل خارج حدوده تتطلب ان تستعيد هذه الدولة انموذج البداءة الأولى في دولة – المدينة، وهو يحصل اليوم في العراق الجديد حينما توزعت المناطق الجغرافية الى مناطق نفوذ كردية او شيعية او سنية، دون ان تخرج معادلة مثلث السلطة عن حدود ما تفرضه المليشيات المسلحة في مناطق نفوذها، ونماذج ولاء ديني سياسي متمذهب، ورجال مال لا يجدون في مصطلح "وطن" الا نموذجا للإثراء في اشكال متعددة من تجارة الحرب والفساد السياسي العام.

&لذلك لا يستطيع القائمون على قيادة هذه المثلثات الاجتماعية التي تمثل نموذجا صهيونيا للكيبوتز "القرية المكتفية ذاتيا خلال حرب احتلال فلسطين" من اجل فرض إرادة امراء الحرب على الشعب في اغلبيته الصامتة، وهم لا يعترفون بحدود وطنية لعلاقاتهم مع من يحقق لهم مصالحهم الانية مثلما فعل قادة المعارضة العراقية،حكامها الجدد، عندما وجدوا ان التحالف مع الفوضى الخلافة في قانون تحرير العراق، الحلول الأفضل لإسقاط نظام صدام، وفي المحاصصة الطائفية ما يكفي طموح الجميع للجلوس على مقاعد السلطة، لكن بعد عقد من الزمان على تجرية الديمقراطية التوافقية في عراق اليوم، نرى الكثير من تلك الفرضيات المزعومة عن تحرير العراق تصطدم بقوة بمواقف امراء الحرب والارادات الإقليمية والدولية التي همشت الدولة وجعلت سلطانها مجرد وعاء لاحتواء أفعال الغير داخليا وخارجيا في سياق حرب مضطردة على الإرهاب الداعشي الذي يمثل أيضا نموذجه في إدارة السلطة.

كيف يمكن لأي مؤتمر يدعو للمصالحة الوطنية ان يبدأ في طرح فرضيات خارج اضطلاع هذا المثلث؟؟ وهل يمكن التفاوض على مفاتيح الحلول العراقية ما بين نموذج السلطة الدستورية وما نموذج امراء الحرب الذين يفرضون مواقفهم بالقوة على مجمل الشعب العراقي وعمليته السياسية؟

المشكلة اليوم ان الكثير من القوى الشيعية تستحضر على طاولة المفاوضات حقوقا مسلوبة منذ 14 قرنا برؤية مذهبية صارخة، والسنة يجدون ان تهميشهم يتطلب مواقف عربية ودولية اكثر قوة بل هناك من يجد ان داعش ومن قبلها القاعدة نموذج القوة المقابلة للنفوذ " الصفوي"، اما الاكراد فهم الأكثر دراية بفنون اللعبة الدولية والإقليمية في رقعة شطرنج العراق، فيما يحاول الجميع من خارج العراق توظيف أدوارهم لخدمة مصالحهم الوطنية، وليس هناك أي عراقي يبحث اليوم وهو على سدة الحكم عن مصالح العراق كوطن خارج حدود مصالح مكونه الاجتماعي ونفوذ امراء الحرب عليه.

&مواجهة هذه الحقائق وحدها كفيل ان تنجح صفحة جديدة من فن حكم العراق الجديد فقط حينما تظهر زعامات عراقية وطنية جديدة ومخاض ظهور مثل هذه القيادات ما زال قيد الانتظار والترقب.

&في ضوء ما تقدم لا تبدو فرضيات التفاوض على المصالحة الوطنية في العراق او غيره من الأقطار العربية التي تواجه ازمة ترجيح مصالح الغير على مثلث السلطة الوطنية،مثل سورية ولبنان وليبيا وحتى مصر، قادرة على بلورة مواقف وطنية راسخة يمكن لها ان تأتي بما سبق لدول اوربا ان واقفت عليه في اتفاقية ويستفليا، ومن ثم في اتفاقات فينا التي لم تنه ازمة الخلافات الاجتماعية على مثلثات السلطة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما يحصل اليوم في منطقة البلقان يؤكد صورة هذا التعارض بل ان الخروج المحتمل لبريطانيا من الاتحاد الأوربي، يؤكد بان مسيرة التفاعل الإنساني متواصلة في دوامة التضادات ولكن بشكل غير عنيف، فيما تبقى" الشعوب المتخلفة" عاجزة عن تحديد مصالحها الاستراتيجية، وهو ما يحصل في العراق الجديد في مقابل معرفة ايران ما تريد من مصالحها النووية وهوما ترفضه السعودية وتلعب واشنطن وتل ابيب على اوتاره.

&مثل هذا الكلام قد يزعج البعض من المتصديين للشأن العام في عراق اليوم، لأنه يعبر عن رغبة ملحة للأغلبية الصامتة العراقية وربما العربية وحتى الإسلامية بأهمية تبني حلولا وطنية لمشاكل خارجية بمواقف تمكن الشعب من الحفاظ على لحمته الوطنية، هذه اللحمة التي ضاعت في عصف الإرهاب المتبادل بين" مليشيات شيعية تدافع عن المذهب"، وإرهاب داعش والجماعات المسلحة التي ترى انها تدافع عن " مستقبل السنة في المنطقة"، ومتى ما سقطت فرضيات امراء الحرب وانتهى دورهم، يمكن عندها ان تبدأ المفاوضات للحوار الوطني، اما ان تكون هناك مفاوضات لمثل هذا الحوار في أجواء العصف الداعشي، فأنها لن تغادر فرضيات اثبات الولاء لمثلث السلطة، لكن ليس لقيادة الدولة المدنية بتكوينها المتعارف عليه، بل لأمراء الحرب، بعقلية إدارة السلطة من خلال العنف المبرمج وهو ما سبق لواشنطن وان حاولت موازنة معادلة النفوذ لأمراء الحرب في العراق الجديد من خلال تأسيسها الصحوات ومبادرتها لتشكيل ما يعرف بأفواج الحرس الوطني من جديد، لكن النتائج دائما تبقى النار تحت الرماد ما دام الكثير من قادة العراق الجديد يتعاطون مع متطلبات الغير، الإقليمي والدولي، دون الإصرار على متطلبات وطنية، تبقى مفاتيح الحلول العراقية إقليمية ودولية وليست وطنية!