ما يبدو الآن جلياً فيما نظن، هو أن الشعب المصري يمر بفترة عصيبة، تُفرض عليه فيها معركة مصيرية، يخوضها وهو مجرد تماماً من كل مقومات الانتصار، بل قد يكون العكس هو الصحيح، إذ تتوفر كل مقومات الاندحار أو الانتحار، فأي مسيرة يلزمها ثلاثة أركان:
- توجه استراتيجي يحدد الأهداف العامة والقواعد والمبادئ الأساسية، التي توجه المسيرة نحو الأهداف.
- خطط تكتيكية، تحدد مراحل وإجراءات تحقيق التوجه الاستراتيجي على أرض الواقع.
- إمكانيات إدارية ومادية وبشرية على درجة من الكفاية والكفاءة، كفيلة بالتننفيذ الفعلي للخطط الموضوعة.
الواقع المرصود في مصر الآن، يشير لغياب شبه كامل، لما يكفل نجاح مسيرة الشعب المصري، وفقاً لهذه الأركان الثلاثة. فمن الناحية الاستراتيجية، يغيب التوجه المستقيم لبناء دولة حديثة، متسقة مع العالم ومع معايير العصر، تكتسح من أمامها صخور الأيديولوجيات الدينية، ومن الطبيعي أن يحدث هذا الغياب، في ظل الدور المتعاظم الذي تلعبه الجماعات السلفية والمؤسسات الدينية في الحياة المصرية بكافة جوانبها، والمستند إلى الدستور الذي وضعته كل من "ثورتي 25 يناير و30 يونيو". بل ويتم سياسياً استدعاء دور هؤلاء، فيما يسمى "نشر التوعية والوسطية والاعتدال"، لتدور الحياة المصرية هكذا حول محور الفكر الديني، يزايد ويتاجر به الجميع، إرهابيين ونخبة ودولة وجماهير.
كما في ظل نوعية النخب المسيطرة على الإعلام والصحافة وسائر الفعاليات الثقافية، نعجز عن تجاوز أحجار الأفكار البالية المعادية للآخر ولمقومات الحضارة العالمية الراهنة. إذ يفترش الساحة فلول الاشتراكية الناصرية، ودعاة الفاشية العروبية، المصرة على العداء الدون كيشوتي للدنيا بأسرها، تعلقاً بيوتوبيا اشتراكية، توزع الفقر بالتساوي بين الجميع، عملاً بالمثل الدارج المعروف: "اشتغلنا ما اشتغلنا، سيدي الميرغني موكلنا"، وهياماً في غياهب الحلم البعثي: "أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة"، الذي وصل بمختلف الدول التي رفعت شعاره، إلى التحلل والانهيار الذاتي الداخلي، تحت تأثير اختلالات هيكلية، في النظم السياسية والاجتماعية والإثنية لهذه الدول، وتلك التي حكمتها نظم سميت ثورية أو إسلامية، علاوة على المتوقع في المستقبل المنظور، من انهيار دول تقليدية عريقة، تحت ضغوط ذات الاختلالات.
كان من الطبيعي مع غياب الاستراتجية، أن يغيب الركن الثاني وهو التكتيك، الموضوع لا نقول لتحقيق الأهداف الاستراتيجية، ولكن لمواجهة هجمة الإرهاب والرؤى الظلامية، المتحالفة مع عناصر راديكالية عدمية وفوضوية. هكذا نجد الدولة المصرية تتعامل مع الأحداث "بالقطعة"، أو وفقاً "للتساهيل" و"الظروف اليومية"، فنجدها بعد كل مذبحة دموية يرتكبها الإرهاب المنظم في سيناء أو داخل المدن المصرية، تردد ذات العبارات التي صارت الآن محفوظة من قبل الجميع عن ظهر قلب، عن "الثأر للضحايا" و"ملاحقة الإرهابيين" و"وحدة الصف المصري" في مواجهة الإرهاب، لترافق هذه التصريحات والهتافات الجنازات المهيبة، التي تشيع جثامين الضحايا. ويعقب هذا عادة بعض النشاط العشوائي في ملاحقة الإرهاب، ريثما تهدأ النفوس وتنسى الرؤوس، إلى أن تعود نفس الدورة من جديد!!
الركن الثالث من أركان أي مسيرة جادة وناجحة، وهو توفر الإمكانيات الإدارية والمادية والبشرية، بالكم والكيف اللازم، ربما هو الأكثر استعصاء على تدارك غيابه. فبعد ستة عقود لثلاث مراحل حكم، جمع بينها قيامها على أساس المغامرة والعشوائية والجهالة والفساد، من التمادي في السذاجة أو حتى البلاهة، الظن بأن هناك مؤسسة مصرية أياً كانت، نجت من عوامل انعدام الكفاءة والتسيب والهزال المادي والإداري، ومن تدني قدرات ومهارات وسلوكيات منتسبيها. هذا بالطبع بخلاف ما لحق بسائر مؤسسات الدولة المصرية من تصدعات وانهيارات، جراء السنوات الأربع الأخيرة، مما سمي "الربيع العربي". ويضاف لهذا الصفات الطبيعية أو المستقرة في وجدان الإنسان المصري، من تواكل وإهمال وفهلوة وعشوائية السلوك، كذلك التركيبة العقلية الخرافية، والقابلية الشديدة للارتشاء والفساد المالي والإداري.
إذا بحثنا عن نقطة ضوء تبعث على التفاؤل، في خضم تلك الحالة المصرية المتدهورة، فهي أن الضغوط والتهديدات التي تتعرض لها البلاد حتى الآن، لم تصل إلى الدرجة الكفيلة بانهيار دولة عريقة كالدولة المصرية. فمصر بالفعل ليست العراق ولا سوريا ولا ليبيا ولا اليمن ولا السودان والصومال. هذا يبعث على اطمئنان نسبي، من أننا لن نشهد قريباً التحاق مصر بمسلسل الانهيارات العربي. لكن هذا لا يعني بالطبع، أن مصر بالحالة التي هي عليها الآن، وبالقيادات والتوجهات التي تتحكم وترسم لها مصيرها، قادرة بالفعل على الوقوف بالبلاد على قدميها، والخروج بها من مأزقها التاريخي الراهن. فأقصى المتوقع فيما نظن، هو البقاء نضرب في أوحال مستنقعنا، نرفع قدماً من الوحل، لتغوص القدم الأخرى، ونحن هكذا قد نظن، أو قد نصدق ما يصوره إعلام "الطبل والزمر لنا"، أننا نسير خطوات للأمام. ما يحدث في مصر الآن لا يصح اعتباره مسيرة نحو أي اتجاه أو أي مكان، وإنما على أحسن الفروض يعد "محلك سر"، وفي أسوأها هبوط تدريجي إلى اللاقرار.
[email protected]
&