في حوار مع نوري المالكي لمجلة مدارك قبل أن يصبح رئيسا للوزراء، سألته عن موقف حزب الدعوة من الدولة الاسلامية، فأجاب: "نحن بالاساس ليس غرضنا اقامة دولة اسلامية، هدفنا الاساس هو تطبيق حكم الله سواء عن طريق الدولة او عن طريق المجتمع. لذلك نحن نؤيد فكرة مؤسسات المجتمع المدني التي يمكن ان تصنع لنا مجتمعا اسلاميا يؤمن بالقيم والثوابت الاسلامية حتى من دون دولة اسلامية. طبعا نحن نرى ان وجود الدولة خير وطريق اسهل للوصول الى غرض. نحن الان كتبنا في الدستور ان الاسلام مصدر اساسي في التشريع وانه لا يجوز سن اي قانون يخالف ثوابت الشريعة، هذه الحدود هي التي نريد وجودها في الدولة العراقية الحالية.لا شك ان هذا لا& يتحقق بالاكراه الذي نرفضه بشكل قاطع، بل عن طريق الديمقراطية، فنحن نعتقد ان الديمقراطية توصلنا لما نريد على مستوى البناء والتغيير وعلى مستوى التشريع. ومن لا يريد فهو حر ولكن عليه ان يلتزم بنتائج الديمقراطية".
كلام المالكي يختصر الكثير حول منهجية الاسلام السياسي في العراق، وحول ما يجري في المدن الخاضعة بشكل كامل لبرنامجه العقائدي والسياسي. لا تمارس الدولة الاكراه، لكن يتم توظيف المجتمع اسلامياً لتطبيق ما تعجز السلطة عن تطبيقه. الديمقراطية في تصور الاسلام السياسي تعني صناديق الاقتراع. قد يستخدم منهجية غير ديمقراطية، او يمضي بطريق تتناقض مع روح المبادئ الرئيسية لها. نموذج لهذا حصل منذ أيام في النجف، المرجعية الدينية عبر أحد ابنائها، والإدارة المحلية متمثلة بمجلس المحافظة، اصدرت ارشادات "ابوية" حول الاحتفال بعيد الحب، رافضة له. الرفض ليس منعاً او عقاباً رسميا. الا أنها بعثت برسالة الى "المجتمع الاسلامي" الحارس، كي يمارس دوره، فتحركت الجموع مستجيبة الى الرسالة، وطبقت الحكم بشكل كامل دون الحاجة لشرطة أو قوانين.
يحصل ذات الأمر في كل المدن ذات الغالبية السكانية الشيعية. وقبل داعش حدث أيضا في المدن ذات الاكثرية السنية، أما مع داعش فهناك طريق أخرى وتطبيقات معروفة للجميع، تعتمد على الحكم الصريح والاجراءات الالزامية المعلنة. المنهج الدموي المعتمد لدى خلافة البغدادي ليس هو نفسه عند اصحاب مشروع تنفيذ "حكم الله" عبر المجتمع الاسلامي. الوصول الى الهدف يمر بخلط المرونة مع شيء من القسوة. فاحزاب الاسلام السياسي، عدا السلفية الجهادية، تعتمد ليونة نسبية في الوصول الى أهدافها غير موجودة عند تنظيم القاعدة. لهذا يسمونه بالمتشدد ويسمونها بالمعتدلة. الفرق ليس في الاهداف، بل بالمنهج.
المجتمع الاسلامي في الحالة العراقية ليس اسلاميا بالمعنى المحدد لدى مدارس "الوعي الديني" التي شكلت تيارات الاسلام السياسي. السائد تدين شعبي، أكثر شمولية، واشد التصاقا بالعادات المجتمعية، بما في ذلك تلك التي لا تمتلك خلفية دينية معروفة. انه نوع تحالف بين نظام قبلي ذكوري وثقافة دينية شعبية تتسع بحسب ما تمليه الشعائر والصراعات وخطباء المنابر... نظريا أغلب تيارات الاسلام السياسي المنحدرة من الاخوان المسلمين وولاية الفقيه وحزب الدعوة، ترفض هذا النموذج والنمط من التحالف، وأيضا ترفض التدين الشعبي. لكنها تستفيد منه في الوقت الحاضر، لأنه ضمانة غير مكلفة للوصول الى تطبيق اجنداتها.
واذا ما فشل هذا المجتمع بتحقيق المهمة، فإن السلاح غير الرسمي يحسم الموقف. هي معادلة اعادة انتاج النموذج المراد تحقيقه بتدرج ماهر، والاستمرار به الى ما لانهاية. هو يمثل الجدار العازل أمام أي تحول. وتبقى السلطة الرسمية بعيدة عن التدخل الا في حال وجود ضرورة لذلك. القوانين هي الاخرى، اعتمادا على بعض المواد الدستورية، تحرس المجتمع الديني الحارس...
لذلك، لا يوجد نظام حكم ديني في العراق، وأساسا لا وجود لشكل نظام عراقي. هي عملية سياسية تقودها تيارات دينية صرف، أو قوى طائفية تتملق التدين الشعبي المتحالف مع القبيلة، فتدافع عنه. اعلان هذا الحكم مؤجل لاعتبارات خارجية وداخلية، والبديل وجود مجتمع ديني يضمن تطبيقه عملياً. هذا المجتمع الى جانب منظومة العشيرة والسلاح، حتى الان تتصدى بنجاح لمساعي الخروج عن "الاغلبية"، خصوصا مع حالة الخوف الطائفي المتبادل والمتحكم باتجاهات الشارع. لكن الى أي مدى ستستمر هذه الحالة؟
الحديث الان عن شرائح تغلي، وعن نقمة متزايدة بفعل عوامل عديدة، أهمها وضع النهب الذي تعيشه البلاد... فهل هذا الغليان حقيقي، وهل سيكون معنيا بمواجهة أسس وجود الاسلام السياسي في البلاد؟. قد يحتاج العراق الى سنوات اطول لمعرفة الجواب.
&
التعليقات