علمونا منذ الصغر أنه في أوروبا ينتشر الفساد فعلقت في أذهاننا، و قد كان الفساد في عرفنا مرتبطا دائما بالجنس و بعلاقة الجنسين معا، فما مدى صحة معلوماتنا؟ نحن نحتاج لاختبار مخزوننا المعلوماتي بين الحين و الآخر و مناقشته، فليس من الضرورة أن يكون كل ما تعودنا سماعه صحيحا. أعيش في بريطانيا و أعرف انه ليس في بريطانيا من يسمًون "بمجهولي النسب" - بريطانيا البالغ نفوسها حسب تقدير 2013 حوالي 64.100.000 نسمة - فليس من ثقافة الرجل البريطاني الهروب من صديقته الحامل اولا، ثم انه من حق كل فرد بريطاني معرفة "الأب البيولوجي" في كل الاحوال، و للعلم فأن الأب عندهم هو الذي تقع على عاتقه مسؤولية التربية كما هو المثل السائد عندنا و القائل: " الأب هو من يربًي لا من يخلف ويترك وراءه".
&
تبلغ احصاءات بعض البلاد العربية من مجهولي النسب حدا مخيفا: ففي مصر مثلا يقدر عدد اطفال الشوارع - و هكذا جرت تسمية "مجهولي النسب" على مدى عقود - بنحو مليوني طفل حسب تقرير الـ "بي بي سي" في موقعها العربي في ابريل للعام 2014، في حين كانت تشير بعض الاحصاءات السابقة – غير الدقيقة - الى ان عددهم حوالى 50.000 فقط (1).

اما في السعودية فهناك ما يزيد عن 4000 من مجهولي النسب - وفقاً لإحصائية وزارة الشؤون الاجتماعية - تحاول الدولة ايجاد الأسر الحاضنة لهم. وباعتراف الحكومة فان مشكلتهم لا تنتهي بذلك بل يزداد احساسهم بها بتقدمهم في العمر، حيث تبرز تساؤلات عديدة تخص وضعهم الأسري، فيسألون لماذا هم لا يعرفون نسبهم، ولماذا ليس لديهم أعمام وأخوال كغيرهم. ومع التقدم في العمر يبدأوا بالتفكير في الزواج و تأسيس أسرة و احتلال مكانة في المجتمع، ومشكلة النسب تلك من شأنها أن تُعقِّد أوضاعهم الاجتماعية. (2)
&
و تتفاوت الأوضاع في غيرها من البلاد العربية فمثلا تقدًر الأردنً عدد من يولدون سنويا من مجهولي النسب بـ 70 طفلا - حسب إحصاءات وزارة التنمية الاجتماعية الأردنية (3)، بينما تقدرهم الجزائر بـ 5000 طفل سنويا (4). فأين يكمن الفساد الحقيقي هنا ام هناك؟
&
لم يكن الزنا مقبولا في أعراف الشعوب قديمها و حديثها و لم تسوغه او تسمح به أيًة ديانة أوفلسفة مهما كان مصدرها، لهذا لا داعي لاستحضار كل ما جاء في الكتب السماوية لاثبات كراهته ولكن نقف فقط على كيفية وصفه في القرآن الكريم "وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا" الإسراء *3*
&نعم "الزنا" فساد بحد ذاته و ضرره يمتد لعقود بما يخلفه من أبرياء تظلمهم الحياة بذنوب غيرهم. في السودان تشير احصاءات وزارة التوجيه و التربية الى انه في ولاية الخرطوم وحدها حوالي 700 طفل مجهول النسب سنويا و ترد اسباب هذه الحالة الى الجهل و سوء التربية لأن من يقعن في الزًنا هم من القاصرات بين اعمار ال 12 و ال 14 عام. (5)
&
طبعا يختلف وضع الطفل في اوروبا التي تحتضن الكثير من ايتام العالم ممن تخلفهم الحروب والكوارث الطبيعية فهي بذلك تحقق فائدة مزدوجة، من ناحية هي تحل مشاكل الأيتام و تجد مأوى مناسب لهم و تفتح امامهم ابواب المستقبل، و من ناحية اخرى هي توفر للمحرومين من الانجاب ولراغبي التبني فرصتهم في الحصول على اطفال، (نعمة الله و زنية الحياة الدنيا). ومن حسن حظ الاطفال هنا ان بريطانيا لم تسمع بالمثل الأناني القائل:" يا مربًي في غير ولدك يا باني في غير ملكك" الذي من شأنه ان يغلق ابواب الخير و البر بوجه الاطفال المحرومين ويمنع عنهم نعمة قد تشملهم. و في دولة مثل بريطانيا، يعطى الطفل المتبنى اسم عائلة المتبني&فينشأ سويا كغيره من الأطفال. صحيح اننا نرفض ذلك في مجتمعاتنا بدعوى أن ديننا يحرًمه، لكن انما ما جاء به القران الكريم هو:" أن ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله"، و كلمة "أقسط" لغويا هي أسم تفضيل –و اسم التفضيل هو اسم مشتق من حروف الفعل الماضي الثلاثي على وزن (أَفعل) ؛ ليدلً على أن شيئين اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر فيها- يعني ان الحال الاول هو "قسط" و الثاني هو "أكثر قسطا" و لم يرد تحريم النسب لغير "الأب البايولوجي" صراحة، فهل يمكن تغيير مفاهيمنا و قوانيننا عن التبنًي لأجل مستقبل ابرياء كانوا ضحيًة أخطاء من تسببوا بوجودهم في هذه الدنيا، لكي لا يدفعوا حياتهم بطولها ثمنا لتلك الاخطاء؟ فقط اتساءل!!!
&
"ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" الأحزاب *5*
و من قبيل "شرً البلية ما يضحك" أنه في العراق تم منح مجهولي النسب مسمًى "كريمي النسب" حلا لمشكلتهم، و لم لا فما يمنع الكريم من ان يكون مجهولا؟ و هل ما يمنع المجهول من ان يكون كريما هو ايضا؟ علما انهم في العراق "مجهولي العدد" ايضا، يعرف منهم 30 طفل فقط، و هم نزلاء دور رعاية الطفولة في الدولة. (6)
&
و هذه مصر التي تفخر بنزاهة قضاءها و تدعي استقلاليته تطالعنا دوريا بأخبار تشغل الوسط الفني المصري و هي قصة "زينة و احمد عز" الفنان و قضيًة اثبات نسب الطفلين. فمنذ عامين والفنانة زينة تدور في المحاكم دون جدوى، و القضية برأيي ليست هي صدق ادعاء زينة أوتملص احمد من الحضور للجلسات، بل برأيي هي قضية رأي عام. فمصر من الدول التي تمارس "الزواج العرفي" بنطاق واسع كحل لمشاكل في المجتمع المصري، فأصبح هذا الزواج سببا لمشاكل أكبر و أعوص. و في الوقت الذي تصورت أنا شخصيا في هذه القضية فرصة ممتازة لايجاد مخرج نهائي منها ولوضع نهاية بقوانين صارمة ورادعة لكل من يفكر في أن يكون طرفا في قصة مماثلة، نظرا لاهتمام الصحافة بها لكون طرفيها من االمعروفين فنيا ولكونها تحت الاضواء، فيرتاح المجتمع المصري من قضيًة طالما ارهقته. فأذ بهذه القضية تطول و تتمطط لعامين كاملين -وهو وقت طويل بالنسبة لعمر الطفلين- ما يوحي بوجود يد خفية طولى عابثة و مصالح شخصية وراءها، ربما لشخصيات كبيرة متوطة بقضايا مشابهة. فكل هذا التأخير و الحل بسيط، هو تحليل "الدي ان اي" فقط. أو ليس هذا فسادا في حد ذاته؟ أين هي الأصوات التي تنادي بحقوق الطفل؟ و أينهم من أرادوا حلا لمشكلة أطفال الشوارع في مصر؟
الغرب أدخل حيواناته للمنازل و عاملها برحمة، في وقت يرمي فيه الشرق بأطفاله الى الشوارع و بدون رحمة. أحيانا أتصور بخيالي الواسع أن تتحوًل الحيوانات المنزلية الى كائنات عاقلة، حينها سترسل برسائل شكر لدول الغرب لأنها ساعدتها في تطوير ذاتها حينما كانت حيوانات غير عاقلة، بحسن معاملتها وبالدفاع عن حقوقها، بينما شردتها الشعوب العربية في الشوارع. ولم تكتفي بذلك بل كانت تسلًط عليها الأولاد "المسعورين" بين حين و آخر ليرموها بالحجارة. لا ادري هل التشابه بين الحالتين واضح؟
&
(1) تقرير عمرو جميل. المصدر: موقع "بي بي سي" عربي.
(2) الدمام: ياسمين آل محمود، المصدر: صحيفة الشرق – الالكترونية – يومية سعودية، نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (649) صفحة (11) بتاريخ (13-09-2001).
(3) محمد خير العناسوة – عمان – مراجعة – احمد حسو، المصدر: مركز "دي دبليو" الاعلامي – الكتروني.
(4) رفيقة - نشر في صوت الأحرار يوم 19 - 11 - 2012.&
(5) المصدر: صحيفة "الراكوبة" الالكترونية "اطفال "المايقوما" ازمة مجتمع مكتومة".&
(6) المصدر: الصفحة الرسمية "اذاعة العراق الحر" "كريمي النسب للاطفال مجهولي النسب" - ليلى احمد في 30-06-2014.
&