كثيراً ما تكون الذاكرة عبئاً على صاحبها فتكبله بأغلال وثيقة من الذكريات السلبية التي تنال من فاعليته المعاصرة وتسجنه في زنزانة الماضي مما يحجبه عن التماس العفوي المباشر مع الحياة.

إن الأطفال أكثر ابتهاجاً وغبطةً والتماعاً وقدرةً على التساؤل والاكتشاف من الكبار لأن ذاكرتهم صفحة بيضاء لم تتلوث فهم يرون كل ما في هذه الحياة جديداً مبهجاً مثيراً ويقدرون على الاستجابة التلقائية لداعي الطبيعة من حولهم ولنداء الفطرة من داخلهم.

تخيلوا رجلاً يعيش بيننا ليس له أي ذكرى سلبية مع أحد فهو يبتسم في وجوه الجميع ويصافح الناس ببراءة ويدفع بالتي هي أحسن لأنه لا يتذكر عداوات أحد وإساءاته، لا يرى في الناس إلا وجه الخير، لم يتلوث قلبه باستحضار زلاتهم وخطيئاتهم، إن هذا الرجل سيربح سلامه الداخلي لأنه قد حجب عنه تذكر كل ما ينغص على هذا الصفاء، إنه سيكون حراً في انفعالاته وأفكاره لأنه بلا ذاكرة مثقلة..

امتلاء الذاكرة يصنع حجباً كثيفةً تمنع التماس المباشر مع أسئلة الحياة لأن المرء في هذه الحال لن يرى الحياة بمباشريتها بل إن وعيه بها سيمر عبر قنوات من الأحكام المختزنة والقوالب الأيديولوجية والتحيزات المسبقة فتبتعد أحكامه عن الموضوعية ويقتل فيه الحس البدهي المباشر الذي يرى الشمس شمساً والنهار نهاراً..

وما يصح على الذاكرة الفردية يصح على الذاكرة الجماعية التاريخية أيضاً، فالأمم تسجن أنفسها في كتب تراثها وتجتر أحداث الماضي وجدالاته وثاراته وبغضاءه فتشكل أفكارها ورؤاها ومواقفها المعاصرة وفقاً لظروف لم تعد قائمةً مما يؤثر على فاعلية هذه الرؤى والأفكار وقدرتها على الاستجابة الحية لتحديات اليوم ويبقيها خاضعةً لأنماط تاريخية وتصورات تجاوزها الزمن.

إن الذاكرة هنا تتحول إلى قيد ثقيل يعوق أداء رسالة الحاضر، ومن هنا يقاوم القرآن بوضوح الخضوع لأسر الذاكرة التاريخية المثقلة ويدعونا إلى تجاوزها: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون"، ولما أراد فرعون جر موسى إلى وثاق التاريخ كان موسى عليه السلام حاسماً فأغلق الملف برمته لأنه لم يرد أن ينشغل عن رسالته المعاصرة بالجدل في الماضي: "قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى".

وفي سورة آل عمران معنى عميق في تأثير الذاكرة السلبية على فاعلية الحاضر: "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم"،،

&إن استحضار خطايا الماضي في ساعة المواجهة الحضارية يقتل انطلاقتنا للعمل ويشدنا إلى الخلف بإصر وأغلال.

جالست أقواماً أذكياء لا ينقصهم ثقافة والتماع فكري يتحدثون في سيرة المعتزلة والأشاعرة، فقلت لهم: "مهما& كان منطقكم رائعاً وحجتكم قوية فإن هذا الحديث سيشغل حيزاً من عقولكم يؤثر على أولويات الحاضر"، إن الجهد الذي نبذله في التبيان والإيضاح ورد الشبهات كله طاقة مهدرة لم نكن لنبددها لو أننا لم ننشغل ابتداءً بمواضيع منتهية الصلاحية، بدل أن يستغرقنا النقاش المستفيض للانتصار لفكرة تاريخية ماذا لو فكرنا بطريقة أخرى: أن نفترض أننا بدأنا من اليوم فقط وننسى تماماً كل ما سبق هذا العصر ونوجه كل طاقات عقولنا نحو مسائل اليوم ونبدع لها حلولاً خلاقةً تحقق معنى العدل والرحمة والخير.

إن جميع الكراهيات والحروب بين القوميات والمذاهب ما هي إلا نتاج ذاكرة معبأة تعيد إحياء معارك التاريخ وضغائنه، دعونا نحاول أن ننسى: ماذا لو نسي كل أهل مذهب أو قومية تاريخهم الخاص ولم يتذكروا سوى المشترك الإنساني؟ ماذا لو نسي الشيعة أنهم شيعة ونسي السنة أنهم سنة؟ ماذا لو نسي الفرس امبراطوريتهم ونسي العرب عصبيتهم ونسي الترك سلطنتهم؟ إن هذا النسيان كفيل بأن يشطب كل بؤر التوتر ويزيل كل أسباب الكراهية، ذلك أن الناس حين يحطمون الجدر التاريخية التي أنشئوها من تلقاء أنفسهم فسيكتشفون أنهم أمة واحدة، وأن كل هذه العصبيات القومية والمذهبية ما هي إلا أوهام أنشئوها في عقولهم ثم تقاتلوا من أجلها. في فيلم بي كي الهندي يبحث زائر كوكب الأرض في أجساد الأطفال ساعة ميلادهم عن علامات تميزهم وتفسر أسباب تعصب الكبار فلا يجد أي فرق!

أمة تعيش الحاضر متحررةً من أعباء الذاكرة هي أمة قادرة على التفاعل مع الحياة ببداهتها، إن هذه الأمة لن يستنزف وقتها وجهد أبنائها بالبحث عن تكييفات فقهية وتأصيلات شرعية لكل صغيرة وكبيرة في شئون الحياة ولن تذهب للتفتيش في بطون كتب السلف لاستنطاقهم في مسائل مستجدة ما شهدوا خلقها، بل ستنطلق في دروب الحياة مستلهمةً كليات الحق والعدل والرحمة والحكمة والإصلاح، وسيكون تماسهم مع الواقع هو السبيل لاستصدار فقه جديد يمثل استجابةً إبداعيةً لتحديات اليوم.

كثيراً ما تكفي البداهة الأولى وحدها لتقودنا إلى الحق والعدل والرحمة دون اضطرار إلى تقعيد وتأصيل وجدل، لقد سمعت عجوزاً تدعو اللهم لا تفجع قلب أم بولدها حتى لو كانت أماً يهوديةً، ذلك أنها تتحدث بشعور إنساني مرهف، أما من يرون الأمور من منظار أيديولوجي قاتم فيردون على دعوة العجوز بأن المسألة تحتاج إلى تأصيل شرعي، وأن هناك فتاوى وردت في كتب الأقدمين تذهب إلى رأي آخر، واللافت أن هؤلاء الفريق حين يفعلون ذلك فإنهم يظنون أنه دلالة ذكاء وتدقيق وبحث ويتعالون في قرارة أنفسهم على هذه العجوز الأمية التي لا تفقه في الدين شيئاً وتسيرها عاطفتها، بينما الحقيقة أن هذه العجوز بفطرتها وقلبها النقي هي أقرب إلى الله وإلى روح دينه من كل المتفيهقين المتفلسفين.

إن من يقدم نماذج البطولة والفداء غالباً ما يكونون من البسطاء الذين لم تمتلئ عقولهم بجدالات الفقهاء وحشو كتب التراث، إن الشاب الذي يصدع بكلمة الحق في وجه سلطان ظالم والشاب الذي تدفعه شهامته لفعل الخير، والشابة الأمريكية راشيل كوري التي قدمت من وراء البحار لتحمي بيوت الفلسطينيين من الهدم بجرافات الاحتلال دون أن يربطها بأصحاب هذه البيوت رابطاً من قومية أو قرابة أو دين، إن كل هؤلاء لم يتبنوا مواقفهم بعد مطالعة كتب ابن تيمية والأئمة الأربعة رحمهم الله، إنما مثلت أفعالهم استجابةً حيةً لنداء الله في داخلهم دون حاجة إلى وسيط من الفقهاء ورجال الدين.

لعلنا نجد في تاريخ الأنبياء ما يؤكد هذا المعنى، وهو أن الله تعالى لم يكن يختار أنبياءه من صنف المتخمين معرفياً لأن هذه التخمة المعرفية تقتل حس البداهة إنما كان يختارهم من عباده الذين حافظوا على تماسهم المباشر مع الطبيعة ونداء الله المبثوث فيها، فالمؤهل الأساسي للأنبياء عموماً كان هو خلوتهم في الطبيعة ومناجاتهم لله تعالى وليس سعة مطالعاتهم وأفكارهم، وفي هذا درس جدير بالتأمل، إذ إن الخلوة في الطبيعة تعيد صاحبها إلى الفطرة الأولى بعد أن تشوهت بفعل العوامل التاريخية وتحول دعوات الأنبياء إلى عصبيات قومية لا يرى فيها أصحابها إلا مبرراً لسفك الدماء والإفساد في الأرض، وتديناً مغشوشاً لا يرى فيه رجال الدين إلا ميزات طبقيةً وطقوساً شكليةً فيقتضي الأمر حينئذ إعادة هذه الأمم من جديد إلى الدين النقي عبر أنبياء حافظوا على نقائهم الفطري ولم تتلوث قلوبهم بأعباء الذاكرة المثقلة.

في الوقت الذي كان فيه علماء بني إسرائيل يقتتلون حول مسائل فقهية موغلة في البعد عن روح الدين ويصبون غضبهم في سبيل الحفاظ على طقوس التدين الشكلي كان قدر الله أن يبعث إليهم عيسى عليه السلام غلاماً في المهد ليكون صفحةً بيضاء لا تعرف سوى الفطرة المباشرة المتخففة من تخمة مجلدات الفقه، لقد بدا هذا المغزى واضحاً في قصة إبراء عيسى عليه السلام المرأة يوم السبت فاستنكر رجال الدين الخروج على حرمة يوم السبت، لكن عيسى لم يكن يشغله سوى تطبيب المرأة ومعالجتها، ورد على رئيس المجمع بمنطق الفطرة البسيطة: " يَا مُرَائِي! أَلاَ يَحُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ثَوْرَهُ أَوْ حِمَارَهُ مِنَ الْمِذْوَدِ وَيَمْضِي بِهِ وَيَسْقِيهِ؟" ..&

ونفس المعنى نجده في بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من خارج بني إسرائيل رغم أنهم كانوا يترقبون خروجه فيهم ، لكن حكمة الله اقتضت ألا تكون الرسالة الجديدة في أهل الكتاب، ومصطلح أهل الكتاب يدلنا على الموروث الفقهي التاريخي، بل جاءت الرسالة الجديدة في أمة أمية و نبي أمي، وهذه الإضاءة تبصرنا بالبعد الإيجابي لمصطلح "الأمية" وهو نقاء الذاكرة من أغلال التاريخ وتعقيدات الفقهاء، فنحن مع أمة كانت تعيش بفطرتها مما أهلها لتلقي رسالة السماء التي تريد إرجاع الناس إلى ميزان الحق والعدل أكثر من أهل الكتاب الذين طال بهم الأمد فقست قلوبهم وابتعدوا عن روح الدين وانشغلوا بطقوس ومظاهر ميتة.

إن الأمم التي تبتعد عن المعين الصافي لدين الحق والعدل وتضع على أنفسها إصراً وأغلالاً ما أنزل الله بها من سلطان وتعقد مبادئ الفطرة البسيطة تفقد أهليتها لاستمرار حمل الرسالة الإنسانية، وتدخل في كهف مظلم من الجمود التاريخي، ويكون من العسير في هذه الحال أن يأتي التجديد من داخل المنظومة، لذلك فإن المؤهلين للتجديد الروحي والإبداع الحضاري هم أناس يأتون غالباً من خارج المنظومة الثقافية المنكفئة على نفسها والمنشغلة بجدالاتها، ولك أن تقارن بين الخطاب الديني لفريقين من المسلمين: مسلم تقليدي يبحث في كتب الفقه عن تأصيلات شرعية تساعده في كيفية التعامل مع الأنظمة الاقتصادية و العلاقات الدولية والأفكار الاجتماعية الحديثة، أو مفكر غربي يعيش عصره، اعتنق الإسلام بعد أن هضم الموروث الحضاري الحديث فهو يفكك الحضارة الغربية ويهضم منجزاتها ويكون أقدر على اكتشاف مواطن الخلل والتصدي للظلم والاستكبار فيها.

إن المسلم الذي سجن نفسه في كهف التراث الفقهي يتحدث حديثاً نظرياً مطولاً عن حرمة النظام الاقتصادي الغربي لأنه قائم على الربا و يستحضر كل النصوص الدالة على حرمة الربا دون أن يكون قادراً على تجاوز الفجوة بين النصوص وبين الواقع وتقديم صيغ عملية للتعامل مع التعقيدات المعاصرة، لكن مسلماً من طراز علي عزت بيجوبتش أو روجيه جارودي أقدر على الحديث بلغة الأرقام والشواهد الواقعية وإقناع الناس بالخلل الفادح الذي ينطوي عليه النظام الرأسمالي ومدى تناقضه مع مبادئ العدالة الفطرية التي يتعارف عليها البشر.&&

إن من يثقل كاهله بإرث أمة قد خلت لن يسألنا الله عما كسبت سيصير عاجزاً عن إحياء بداهة الفطرة الأولى واكتشاف معاني الخير والعدل والرحمة على قربها