لم يكد يمضي أسبوع واحد على جريمة تفجير مسجد الإمام علي بن أبي طالب (ع) بمدينة القديح بالقطيف يوم الجمعة 22 من الشهر الجاري، والتي راح ضحيتها 21 شهيدا وأكثر من 100 جريح، حتى أتبعتها محاولة إرهابية أخرى يوم الجمعة 29 من الشهر الحالي تم إحباطها عندما حاول رجل متخفي في زي إمرأة أن يدخل مسجد العنود بالدمام لتفجيره، ولكن تصدى له شخص يدعى "عبد الجليل الأربش" الذي لعب دورا مهما في إنقاذ المصلين عندما منع الإنتحاري من دخول المسجد، وانتهت المحاولة بإستشهاد "الأربش" ومقتل الإنتحاري. كما إنفجرت سيارة ملغمة تم ركنها في مواقف السيارات المجاورة للمسجد نفسه، نتج عنها مقتل أربعة أشخاص بينهم السائق، وجرح أربعة آخرين وإشتعال النيران في عدد من السيارات.

هذه العمليات الإجرامية التي ينفذها المسلمون ضد بعضهم البعض وضد غير المسلمين، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. وما يحدث في العالم العربي من إحتراب أهلي منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م له جذوره التاريخية العميقة المرتبطة بالصراع على السلطة والثروة. بدأ الخلاف بين المسلمين بعد وفاة الرسول (ص) مباشرة، وكان الخلاف في الأساس على من يخلف الرسول (ص) في إدارة شئون المسلمين أي موضوع الحكم، وهو شأن سياسي مدني في رأيي الشخصي.

غير أن هذا الخلاف تطور لاحقا نتيجة الفتوحات الإسلامية لبلدان مثل مصر والعراق وإيران والشام. هذه الفتوحات جلبت معها ثروة إقتصادية هائلة لم يكن للمسلمين الأوائل في الجزيرة العربية لهم عهد بها. تكدست أغلب هذه الثروة – وخصوصا في عهد الخليفه الثالث عثمان (رضي الله عنه) - في أيدي من يطلق عليهم "الصحابة الأوائل" أي الذين شاركوا الرسول (ص) في غزواته الأولى إبان نشر الدعوة إلى الإسلام، ثم لاحقا الفتوحات التي أشرنا إليها.

بعد مقتل الإمام علي (ع) في شهر رمضان سنة 40 للهجرة، وبسبب عدم إتفاق المسلمين من البداية على آلية واضحة لإختيار الخليفه، تمكن معاوية بن أبي سفيان من الإستحواذ على السلطة بحد السيف، ثم أورثها لإبنه يزيد بعد حوالي 20 عاما أي في سنة 60 للهجرة في سابقة لم يعهدها المسلمون في تاريخهم وهي سنة التوريث التي قصمت ظهر الأمة الإسلامية حتى عصرنا الحاضر.

منذ عهد معاوية، بدأ الخلاف يأخذ منحى آخر، إضافة إلى كونه خلافا على السلطة والثروة، دخل الدين كعنصر إضافي لتأجيج الخلاف بين المسلمين، وتوسع هذا الخلاف ليشمل تفسير القرآن الكريم وكل مفاصل الديني الإسلامي نتيجة تعدد المذاهب ونشوء الفرق والأحزاب الدينية، حتى إفترق المسلمون إلى 73 فرقة، كل فرقة تدعي أنها الفرقة الناجية وكل حزب بما لديهم فرحون.&

عانت الشعوب الأوروبية من ويلات الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت لحوالي ثلاثة قرون منذ الربع الأول للقرن السادس عشر، وفي النهاية توصل الطرفان إلى قناعة تامة بإستحالة إنتصار طرف على الطرف الثاني. وكان البديل هو القبول بالأخر المختلف في الدين والعقيدة على أساس الأخوة الإنسانية والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات في دولة مدنية يحكمها القانون. وتحولت أنظمة الحكم من ملكيات مطلقة إلى جمهوريات ديمقراطية أو ملكيات دستوريه. كل هذا بفضل الجهد الذي بذله فلاسفة التنوير من أمثال: روسو وسبينوزا ومونتسكيو وفولتير وغيرهم.&

ما هو مفهوم الدولة المدنية؟&

الدولة المدنية هي دولة تحافظ وتحمي كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية. هناك عدة مبادئ ينبغي توافرها في الدولة المدنية والتي إن نقص أحدها فلا تتحقق شروط تلك الدولة، أهمها أن تقوم تلك الدولة على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، بحيث أنها تضمن حقوق جميع المواطنين. ومن أهم مبادئ الدولة المدنية ألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر، فهناك دوما سلطة عليا هي سلطة الدولة والتي يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك. فالدولة هي التي تطبق القانون وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم.&

من مبادئ الدولة المدنية الثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة، كذلك مبدأ المواطنة والذي يعني أن الفرد لا يُعرف بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنما يُعرف تعريفا قانونيا اجتماعيا بأنه مواطن، أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات، وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين. أيضا من أهم مبادئها أن تتأسس على نظام مدني من العلاقات التي تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، والثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة، حيث أن هذه القيم هي التي تشكل ما يطلق عليه الثقافة المدنية، وهى ثقافة تتأسس على مبدأ الاتفاق ووجود حد أدنى من القواعد يتم اعتبارها خطوطا حمراء لاينبغي تجاوزها.

ومن أهم مبادئ الدولة المدنية أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة. كما أنها لاتعادي الدين أو ترفضه فرغم أن الدين يظل في الدولة المدنية عاملا في بناء الأخلاق وخلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم. حيث أن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذي تقوم عليه الدولة المدنية، كما أن هذا الأمر قد يعتبر من أهم العوامل التي تحول الدين إلى موضوع خلافي وجدلي وإلى تفسيرات قد تبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة. ومن مبادئ الدولة المدنية أنها تمنع من أن تؤخذ الدولة غصبا من خلال فرد أو نخبة أو عائلة أو أرستقراطية أو نزعة آيديولوجية. (المصدر: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة).

لن تخرج الشعوب العربية من دائرة الإحتراب الأهلي هذه إلا بالعمل على تحقيق الدولة المدنية الديمقراطية. هذا الهدف لن يتحقق إلا بإشاعة الثقافة الديمقراطية التي تقوم على مبادئ تعدد الأفكار وحق الإختلاف والنقد البناء وقبول الآخر، ونبذ ثقافة الإقصاء والتكفير واستخدام العنف والتصفيات الجسدية، هذا على مستوى مؤسسات المجتمع المدني الشعبي. أما على المستوى الرسمي الحكومي، فالمطلوب وضع خطط وطنية سريعة ومدروسة بعناية، تعطي كل فئات الشعب (أغلبيتها وأقليتها) حقوقها الطبيعية الكاملة، وأن تعامل على قدم المساواة على كل الأصعدة السياسية والإقتصادية والإجتماعية، بحيث لا تشعر أي فئة من فئات المجتمع بالحيف والغبن.&

كما بات من الضروري إصلاح نظام التربية والتعليم في مجمل الدول العربية من أجل القضاء على ظاهرة العنفين الديني والطائفي، ولتفادي كارثة الإنغلاقين الفكري والثقافي، والإنعزال عن المشاركة الفاعلة في عالم القرن الواحد والعشرين. لتكن البداية: إغلاق قنوات الفتن الفضائية، وإلغاء رخص الصحف والجرائد الصفراء التي تحرض على العنف والكراهية، وسحب الكتب الدينية التي تروج للتكفير والقتل من الجامعات والمعاهد الدينية والمدارس.&