وجهات نظر يصعب حصرها طرحت، ونقاشات كثيرة دارت ـ ولا تزال ـ حول خطط انقاذ العالم العربي من براثن الظلامية الجديدة والفكر المتطرف السائد في مناطق ودول عربية شتى، ولكن الملاحظ أن الجهود والنقاشات لم تغادر بعد محطة الانطلاق، ولا تزال تدور في فلك الجدل والتناطح الفكري واللغوي من دون بلورة صيغ واستراتيجيات جادة ودقيقة للتعامل مع إشكاليات التطرف على مختلف الأمدية الزمنية القريب منها والبعيد.
هناك أيضاً تركيز كبير على فكرة تطوير الخطاب الديني لدرجة أن علماء يوصفون بأنهم "ثقاة" يخرجون بين الفينة والأخرى يطالبون بضرورة تطوير الخطاب الديني، لدرجة أن الكثيرين، واعترف بأنني من بينهم، لم نعد نعرف هوية الجهة المسؤولة عن هذا التطوير، إذ أن الجميع يطالب الجميع بتطوير الخطاب الديني!
اعتقد أن الخطاب الديني وتطويره لا ينطوي على حصانة "كاملة" للمجتمعات ضد الفكر المتطرف، وهذا لا يقلل من الأهمية المتعاظمة لهذا التطوير، ولكن ما قصدته أنه مجرد خطوة ينبغي أن تتبعها او تتوازى معها خطوات أخرى عديدة من أهمها التطوير الحقيقي لمحتوى التعليم في العالم العربي.
تطوير التعليم هو أيضاً "شعار" براق يتردد صداه في معظم المؤتمرات والنقاشات، التي تدور داخل أروقة البحث والسياسة العربية، ولكن الجهود "الجادة" التي تبذل في هذا الاتجاه الحيوي لا تزال محدودة أو لا تفرز التأثير المنشود في هذا الملف المصيري.
&الواقع في منطقتنا العربية يشير إلى أنها أن بقعة جيوسياسية سوداء على خارطة العالم الحديث، فالظلامية والانحطاط والتدهور الثقافي والفكري الذي تعانيه مناطق ودول عدة يجعل النظر إلى مستقبل هذه المناطق والدول محفوف بالمخاوف والهواجس والسيناريوهات الكارثية، والاكتفاء بترديد مفردات الاعتدال والتسامح والتعايش والوسطية من دون خطط حقيقية لغرس هذه المفاهيم في وجدان الأجيال الجديدة يضر بهذه المفاهيم ويقوض صدقيتها ويربطها بصورة نمطية سلبية ربما يصعب التخلص منها لاحقاً.
نشر القيم الايجابية في العالم العربي ليس جزءا أساسياً من مكافحة الفكر المتطرف فقط، بل هو استثمار في المستقبل أي في الاتجاه الصحيح ومعالجة صائبة لمناخ الإحباط والتشاؤم والانكسار الذي يتفشي في أنحاء عدة من منطقتنا، وهي مناخ مجتمعي خطر لأنه يمثل بيئة مهيأة لتكاثر وانتشار الارهاب، الذي يراهن على اخفاقات الاخفاقات وغياب دور "الدولة"، وتحول أراضيها إلى مناطق منزوعة السيادة بأبعادها الثقافية وليست الأمنية والجيو سياسية فقط.
يبرز التعليم وسط الفوضى والارتباك الحاصل في مواجهة خطر تنظيمات الارهاب باعتباره الورقة المنسية ربما لكون حصاده متوسط المدى في أحسن التقديرات، وهذا تقدير استراتيجي خاطىء ترتكبه العديد من الدول العربية التي تكتفي بترديد الأفكار السائدة اقليميا وعالميا حول تطوير التعليم من دون الانتقال إلى خطوة التنفيذ الفعلي، في ترجمة واضحة لغياب التخطيط على مستويات متعددة زمنيا في معالجة الإشكاليات والتحديات الاستراتيجية التي تواجه الأمن الوطني للدول العربية في المرحلة الراهنة.
دول عربية قلائل امسكت بطوق النجاة ووضعت تطوير التعليم في صدارة اولوياتها الاستراتيجية، ومن بينها دولة الامارات العربية المتحدة، ولكن الجهود الفردية قد تحصن مجتمعك بدرجة ما، وهذا أمر جيد في حين أن بلوغ مرحلة المناعة الذاتية الكاملة يحتاج إلى بيئة جغرافية محيطة غير ناقلة للعدوى ولا تعاني أعراض وباء التطرف والإرهاب، ما يعني أن التخلص من الفكر الارهابي يتطلب تطوير التعليم في دول المنطقة بأكملها، لاسيما في ظل ثورة النقل والاتصالات التي تجعل العزلة والبحث عن بيئة آمنة وسط محيط جغرافي متقلب بمثابة فكرة عبثية، وليس هناك أدل على ذلك من انتقال عدوى التطرف إلى مجتمعات غربية متقدمة يشارك بعض أفرادها حاليا في الصراع الدائر في العراق وسوريا!
البحث العلمي في عالمنا العربي يعاني واقعاً مزرياً، وهذه حقيقة والمسؤولية في ذلك تقع على كاهل الحكومات بالأساس والمسألة لا تتعلق بالميزانيات المخصصة للبحث العلمي والتعليم فقط، باعتبار ذلك مبرراً سابق التجهيز تعلق عليه الأخطاء والكوارث التي ترتكب في هذا المجال، بل ترتبط بالاساس بغياب أي خطط واستراتيجيات جادة لتطوير التعليم على المستويين المدرسي والجامعي.
مخصصات البحث العلمي في الدول المتقدمة تتراوح بين 5ر2 ـ 4% في حين أن هذه النسبة لا تتجاوز 1% في مجمل الدول العربية، مع وجود تفاوتات بين هذه الدولة وتلك بحسب ظروفها الاقتصادية والتنموية، ولذا فإن المنشآت البحثية والتعليمية والتوسع فيها وتطويرها ربما يبدو مسألة ذات ارتباط حقيقي بالميزانيات والتمويل والمخصصات، ولكن ارتباط المناهج والتخصصات على سبيل المثال بالاحتياجات الفعلية للمجتمعات العربية لا يحتاج إلى مخصصات مالية هائلة، بل جهد بشري مخلص لربط مختبرات العلم باحتياجات المجتمعات، وهذا أمر غائب أو مغيب تماماً لنقص في الإرادة والإصرار على تحدي الواقع البائس لبعض المجتمعات العربية.
&
- آخر تحديث :
التعليقات