صحيحٌ بأنه من الضروري جداً أن يتسم المرء ببعض المرونة أحياناً، ويكون ممتلكاً روح القدرة على تقبل ما قد يناهض خلفيته الاجتماعية، أو الدينية أو التراثية بوجهٍ عام، وما كان قد تلقفه في بيئته من قبل، وذلك عندما يكون مرغماً على الالتجاء الى مضارب الغرباء الذين قد تتعارض طبيعة حيواتهم مع الكثير من مظاهر الحياة التي كانت قائمة لديه في مضارب بني جلدته، ولكن في أن يتحول المرء الى صدى لأي صوتٍ مهما كان نشازا في العالم، فهنا ربما تكمن علة الفرد الفاقد لأناه كشخص، ومثلبة لدى المفتقد سلفاً للأنا المعبرة عن ثقافة شعبه أو ملته ككل.&

وبما أن في الحروب عادةً ما تكثر الهجرات وتتداخل الملل والثقافات، وقد تتصادم المعارف السابقة للمرء مع العلوم الجديدة أو الطارئة عليه، حيث أن هذا التصادم القيمي قد يدفع بالبعض الى التزمت ورفض كل ما هو مغاير لمشربه الثقافي، أو يكون العكس تماماً هو الحاصل، أي قد يغدو المغترب مجرد كائنٍ تعصف به الأهواء، وتركله الظروف في كل الاتجاهات حتى لا يعود يعرف في أي اتجاهٍ كان.

اذا وفي مقاربتنا لذلك الموضوع ومن باب التنوع والابتعاد عن الجدية المفرطة التي عادةً ما تتسم بها كتابات زمن الحروب، ارتأينا الاستعانة في الخاتمة بنهفة من نهفات الكاتب الأمريكي كوري فورد، الانتفاع من معجمه، وكذلك الاستفادة من الفلسفة الساخرة لبرناردشو وعترته بوجهٍ عام في سياق المقالة ككل، وذلك لكسر الجدية الصارمة التي تتسم بها مدونات فترة الحروب خاصةً تلك المتعلقة بالنقد الاجتماعي، لذا فالمسألة المطروحة برمتها كانت بمثابة مشورةٍ وقائية يقدمها رجلٌ لقرينه الذي كان يوماً ما في دياره من أشد المناوئين لوجود باقي الكائنات الأليفة في عالمه الإنساني، لذا راح القرينُ ومن باب الحرص عليه، يحضه على ضرورة تغيير بوصلته الحالية، علَّهُ ينسجم مع المكان الجديد وأناس المكان أيضاً مشيراً إليه بأن أول ما عليه القيام به كحالة من يضع رجله على عتبة أي منزلٍ جديدٍ سيدخلهُ، هو أن البدء وقبل معرفة الأوادم بالكف عن معاداة الكلابِ، حتى يتقرب قدر المستطاعِ من قلوب من يمتلكون تلك الكائنات، أو بالأحرى من تمتلكهم تلك الفئة التي تقاسم هواء الحياة مع الأوادم، بل ويعمل جاهداً لتلمس رضاهم حتى يكون ممتازاً بنظرهم ونظر أصحابهم، فهو بالنهاية دخيلٌ إلى مضاربهم، وما على الدخيل إلا كسب عطف من آوه وقبلوا به كأي كائنٍ حيٍّ أُعطي له الحق بأن يعيش على متن أو هامش الحياة على مقربةٍ منهم.

وجوهر القصة هو أن أحد الأفرادِ وقبل انتقاله الميمون الى ديار الفلاح والخلاص، كان شديدَ العداء في بلده للكلاب الشاردة والمنزلية على حدٍ سواء، وكان لمجرد أن يشير أحدهم إليه بنعتٍ يُشم منه رائحة الكلبنة حتى يجن جنونه، حيث ظل الرجل ولعقودٍ من الزمان على استعدادٍ دائم عقب سماعه لأي نعتٍ يُقاربه من زريبة الكلاب حتى ينتابه شوق الاغارة وغزو واجهة القائل ولو بعد حين، وذلك من شدة تقززه حتى من ريح الكلمة الحاملة لأي معنى يشير ولو من بعيدٍ الى تلك البهائم المستحقرة بنظره، فإن لم يكن بالتعبير عن غضبه انقضاضاً من خلال اللكم والرفسِ، فعلى الأقل كان يُعبِّر عن مكنونه من خلال إمطار الجو العام باللعنات، أو اكتساحَ ملامح المفوَهِ بأقذر الكلمات، ولكن وبعد أن أغرت الرجل فكرة التنقل الى الضفة الأخرى من عالم النجاة، وتغييّر مكان إقامته بعد أن وهبته الحرب نعمة الهجرة الى تلك المضارب المشتهاة، ومن ثم انتقاله المبارك الى مقاطعاتٍ تقدّر الكلاب أكثر من كل أفراد عائلته، فصارَ مطلوبٌ منه تغيير استراتيجية التعامل لديه، باعتباره الدخيل وطالبَ النجدة منهم، لذا يُراد منهُ التنكر لثقافته السابقة المبنية على كره البهائم ومعاداة الكلاب على وجه الخصوص، كما عليه أن يكون غيره من الآن فصاعداً، حتى يتم قبوله كشخصٍ حضاري من قِبل المكان وناسه، حيث عليه أن يحاول جاهداً إرضاء معشر الكلابِ حتى يُناسب أوادم تلك البلاد، لذلك ومن باب النصح والارشادِ يحثهُ صاحبهُ على إعلان القطيعة مع مورثه المعادي للحواوين، والاسراع بعقد الصلح مع الكلاب حتى يكون إنساناً ممتازاً ومرحباً به هناك، وجاهزاً حتى لقبول فكرة عقد القِران أيضاً على كلبٍ من الكلابِ في قادم الأيام، هذا في حال إذا ما امتلكه هناك في تلك البلاد الجميلة أحدُ الكلاب المنحدرين من سلالة كلبية محترمة.&

لذلك ولضرورة القبول به والانسجام مع المكان وكائناته، عليه بادئ ذي بدء التعرف على أفضل طريقة للتعامل مع تلك الفئة من الكائنات التي تمشي على أربعة، ومن ثم ربما عليه الركون النهائي أو التعويل الأبدي على ما جاء في سياق قصة " كل كلبٍ عليه أن يحظى بإنسان" للكاتب الأمريكي كوري فورد، إذ أن كل كلبٍ لديه الرغبة الكامنة بامتلاكِ انسانٍ ممتاز، وكيف على الانسان عندئذٍ أن يكون عليه سلوكه اليومي عندما يغدو مع المستقبل مملوكاً من قِبل كائنٍ من تلك الكائنات التي كان يستحقرها جداً قبل تغيير المكان والزمان.&