كثيرا مانسمع هذه الايام لغطا واتهامات وتكهنات غريبة غير مدروسة ، خالية من الموضوعية وفيها الكثير من التطاول على المواقف الانسانية النبيلة مفادها ان المبادرات الانسانية التي اقدمت عليها " ميركل " المستشارة الالمانية وشعبها وعموم حكومات وشعوب اوروبا لاتعدو كونها ذات اغراض سياسية بعيدة المدى لألمانيا وعموم القارة الاوربية وربما العالم الجديد وأكثر هذه المحاولات المغرضة& هو تفريغ الشرق الاوسط والعالم القديم من العنصر البشريّ او على الاقل تقليله الى ادنى حدّ& وجرّ الطاقات البشرية الى اوروبا نظرا للتناقص البارز في النموّ السكاني في عموم الدول الاوربية وبالأخص الغربية منها متناسين الموقف الانساني الرائع في احتضان عشرات الالاف من اللاجئين الهاربين من جحيم الحروب المستعرة وتوفير الملاذات الآمنة لهم بعد ان هربوا من بلدانهم غير المستقرة والمستعرة بالحروب والنزاعات والمهملة لسكانها ايّ اهمال بسبب الانظمة الدكتاتورية الفاسدة التي اثقلت كاهل شعوبها بما لايطاق ولايحتمل من اللامبالاة وافتعال الحروب وتغذية النوازع العدائية بين افراد الوطن الواحد وإشاعة الكراهية والنزعات العرقية والعقائدية ليسهل السيطرة عليها وحكمها بالحديد والنار ، اذ تكال الاتهامات الرخيصة المغرضة على كل موقف انساني نبيل يدعو الى مراعاة هموم اللاجئين وتوفير مستلزمات العيش ولو في ادنى احتياجاتها ؛ كل ذلك من اجل التقليل من اهمية المواقف الانسانية المشرّفة والتي نفتقدها نحن فيما بيننا
اريد الحديث هنا عن المانيا وحدها وعن هذا الشعب المعجز الذي اعاد بناء بلاده على افضل وجه وعن نساء المانيا اللائي رأين بلادهن حطاما وخرابا بعد الحرب العالمية الثانية وكيف بدأن في بناء دولتهن ، وعن رئيسة الوزراء ميركل ابنة هؤلاء النسوة اللاتي حققن المعجزات وسطرن الملاحم البطولية من اجل بناء وطن تهاوى تماما بعد ان انتهت الحرب الكونية الثانية العام / 1945 وصار مجرد هياكل مخربة بعد ان سقطت برلين وبقية المدن الالمانية والإطاحة التامة بدول المحور التي رأسته النازية وقتذاك
بعد استسلام المانيا اواسط العام /1945 لم تكن المانيا سوى اكوام من الانقاض والحطام اذ تم تدمير غالبية البنى التحتية ؛ اكثر من ثلاثة ملايين ونصف منزل صارت ترابا وحجرا وركاما ملأت ( 400) مليون متر مكعب من الارض مع انهيار في الروح المعنوية لشعب مهزوم كان بالأمس يحقق الانتصارات تلو الانتصارات ويكتسح اوروبا ويطرق ابواب اسيا لتذعن اليه وفجأة ينهار بكل قوته في بضع سنوات ويموت رجاله ولم يبق فيه الاّ الكثرة الكاثرة من النساء ومنهن من اغتصبن ورحل ازواجهن وأولادهن الى عالم الاموات ومن بقي حيّا يعاني الاسر في معتقلات الحلفاء والإعاقة من مؤثرات الحرب وأكوام بشرية نزحوا كقطعان الماشية عنوة الى سيبيريا الباردة وفي منافي يعانون الجوع والفاقة وقد تقطعت بهم السبل هناك
لم يبق الاّ النساء الالمانيات يعشن بين الانقاض فالبيوت والمباني قد تم تسويتها بالأرض حيث لاطعام& ولاموارد اقتصادية والبلد مشلول تماما بسبب البطالة والركود الاقتصادي ونقص الشغيلة من الرجال القادرين على العمل وفي انهيار لامثيل له فما العمل اذن ؟
بدأت " نساء الانقاض " – هكذا يسمونهنّ – وعزمنَ اولا على رفع كل هذه الاكوام من الخراب ؛ الجدران المهدمة والحجر وتنظيف الارض ثم لملمة كل الاوراق والكتب والقرطاسية من بين هذا الركام الهائل تمهيدا لفتح المدارس لصغارهن وللفتيان والفتيات لأعادة الحياة وترتيب عقول الجيل اللاحق
هناك القليل من الجدران من بقي قائما او مائلا فقد امتلأت باللافتات والشعارات التي تبثّ الامل وتدعو الى العمل ، تقول تلك اللافتات ؛ لاتنتظر طويلا ، وافعل ماتقدر ، ازرع الامل اولا قبل ان تزرع القمح
استمر هذا الجهد الحثيث قرابة 10 سنوات ( 1945—1955)& هي مرحلة اعادة اعمار المساكن والمدارس متسلحين بالأمل والعمل معا والإصرار على تكملة اساسيات حياة الانسان بالرغم من قلة الموارد والطاقات البشرية باستثناء النسوة اللائي كنّ يشكلن غالبية السكان مع عدم وجود المال الكافي وفي ظل غياب شبه تمام لحكومة تشرف او تخصص اموالا ( باستثناء مشروع مارشال الداعم لبناء اوروبا الذي أقرّ لاحقا ) مع شحة بائنة في الطعام والموارد الاساسية ورغم كل هذا الدمار انتصر العزم على الكسل والمساعي الحثيثة على التسويف والتأجيل وتحمّل العبء الاكبر أمهات " ميركيل " نسوة الانقاض اللائي جمعن جبالا من ركام الابنية المحطمة والتي لازالت آثار قسم منها باقية لمن يزور برلين للتذكير بتلك الحقبة مثلما بقيت ايضا قطع من جدار برلين الذي انهدّ في العام / 1989
فمن ينسى السيدة الالمانية " لويزا شرودر" التي تعرّضت للاغتصاب وكرهت حياتها وفكّرت بالانتحار نتيجة هذه الصدمة ، لكنها قررت اخيرا ان يكون ردّ الفعل هو تنظيف بلادها من كل مايعيق بناءها وقامت بتوزيع ادوات العمل على نسوة الانقاض ولملمة الركام بواسطة بواسطة اكياس الخيش واستعمال الفؤوس البدائية اولا والجاروفات اليدوية وعزل اللبنات الصالحة من الجدران المهدمة لأعادة بنائها ورمي البقية الباقية خارجا ، كلّ ذلك قد حصل بغياب الرجال
في الرياضة حقق الالمان فوزا ساحقا في العام / 1954 حيث فازت المانيا بكأس العالم وكم كانت دهشة الشعوب على اشدّها حينما رأت أصابع أقدام اللاعبين تخرج من احذيتهم الرياضية الممزقة لكنهم تبوّؤا الصدارة رغم كل شيء
ثم جاءت مرحلة بناء المصانع الكبيرة من عام 1965—1975 اذ تكفّل كل رجل اعمال بتهيئة خمسين شابا عاملا لتدريبهم وتأهيلهم وشيدت تلك المعامل والمنشآت الكبيرة تحت شعار ( جدٌّ وعملٌ مثابر ) وتم الاستعانة ايضا بالعمال الاتراك في حينها لمضاعفة اعداد القوة العاملة الالمانية التي لم تكن كافية تماما لانجاز ذلك الاعمار المتميز الكبيرة وقد سميت تلك الفترة بانها مرحلة بناء المصانع
بهذه الجدارة والاصرار بنيت المانيا وبتلك العزيمة في مراجعة النفس طُمرت النازية وأفكارها الشوفينية واقتيد من بقي من رجالها الى المحاكم الدولية ولبست حلة الديمقراطية واكتست برداء المدنية وقبرت الى الابد النزعة القومية الضيقة الافق التي كانت النازية تتشدق بها
فليس غريبا على تلك الشعوب الحيّة البنّاءة السامية في كدحها والتي ذاقت مرارة الحروب بكل كوارثها ان تتضامن مع النازحين وتوفر لهم المكان المناسب ليعيشوا بسلام وطمأنينة ويتمّ تأهيلهم وتنمية قدراتهم وقابلياتهم بعد ان انشغل اهل جلدتهم عنهم وصيّروهم وقودا للحرب وحصبا لجهنم الحياة في الشرق الاوسط
معظم المدن الالمانية فتحت ذراعيها للاجئين لاحتضانهم وتوفير مستلزمات الحياة لهم ولو بحدّها الادنى ريثما يتم تهيئة بقية المستلزمات من اجل استقرارهم ، ويؤسفنا ان نسمع من ينفث حقدا على تلك المساعي الانسانية الرائعة في الوقت الذي اغلق ابوابه الشقيق العربيّ والصديق والجار في وجوه النازحين المبتلين
اجل ، صار الاغراب& " الكفّار " من اهل الكتاب ومن غيرهم ممن لايعبأ بالدين ولايولي اهتماما بالعقائد اكثر حنوّا وتعاطفا من الاعراب المتمسكين بعروة الاسلام غير الوثقى وهناك بعض الملاحدة مَن فتح بيته ليأوي أفرادا من اللاجئين مع انه لا تربطه بهذا النازح اية رابطة ثقافية او حضارية او لغوية او عقائدية سوى انه انسان معنّى يبتغي الخلاص من وطن عاقّ ومن أهل صاروا خصما وأعداءً& له
لابدّ من الان بل من اللازم والمحتّم ان نعيد النظر بكل قيمنا وقناعاتنا السابقة فيما يتعلق بفكرنا وعاداتنا وتقاليدنا ولنعترف اولا اننا في المؤخرة في مصاف الشعوب المتحضرة الراقية ويلزمنا جهد كبير في تنقية عقولنا ونفوسنا من الشوائب العالقة فينا وغربلة كل مااعتدنا عليه وزعزعة الثوابت الكامنة فينا ، فليس من المعقول ان نبقى بهذا التدهور الاخلاقي والانحطاط السلوكي ونقتل بعضنا بعضا ونشيع الكراهة بين الجنس البشري الواحد لمجرد الاختلاف في وجهات النظر بشأن عقائد وأصول واجناس متنوعة جعلها الله ذات الوان متعددة بشكل متقصد لاجل ان يتعارفوا ويتصالحوا ويحبّ احدهم الاخر كي يتقاربوا ويتحاوروا وتتلاقح عقولهم وحضاراتهم& من اجل خلق انسان سويّ يتسامى بإنسانيته قبل عقيدته او عِرقه
ليدرك الذين وضعوا في أذانهم كرة من عجين وأخرى من طين ؛ هؤلاء الذين صمّوا مسامعهم عن صوت الحقيقة ومن لم يسدل الغشاوة عن ناظريه بان " ميركل " هي ابنة هؤلاء النسوة الالمانيات اللاتي وضعن اول لبنة لأعمار كل الخراب الشاسع الذي خلّفته الحرب الثانية
ميركل هي من حفّزت اوروبا وشجّعت معظم دول اوروبا على استقبال هؤلاء النازحين الهاربين من جحيم بلادهم وليسكت ويستحي من يشكّـك في النوايا الانسانية الراقية والمواقف الشريفة من مرضى نظريات المؤامرة فقد انكشفت عوراتكم وبانت مؤخراتكم وعليكم اولا ان تستروا أنفسكم قبل ان تتقولوا الاباطيل والاظاليل لمن هو اكثر منكم رِفعة وسموّا ونبلا
لقد نسيتم حتى طبائع اسلامكم ووصايا نبيّكم في اغاثة الملهوف ومناصرة من يلجأ الى حماكم خوفا من فزَعٍ يلاحقه والوقوف مع المستجير والدخيل الذي يلوذ بكم احتماءً من بلوى أصابته
اين انتم من ارتقاء القمة الانسانية التي اعتلتْها شعوب اوروبا ونخبتها السياسية وستبقون في الدرك الاسفل من مصاف القيم الانسانية الرفيعة اذا لم تراجعوا انفسكم جيدا وتعيدوا النظر في ثوابتكم الاخلاقية وتغربلوا الكثير من الشوائب العالقة في تفكيركم عسى ان تصطفوا مع الشعوب الناهضة المتطلعة للسموّ الانساني حتى لو بقيتم في السفح ولعمري ان السفح اقرب للقمة من الهِوى العميقة التي أوقعتم أنفسكم في قرارها العميق&

[email protected]
&