تأريخ حافِل بالأحداث والمَواقف المُتأرجِحة بين الوَطنية، والعَصَبية القَبلية، والمصالح الشَخصية الأنانية الضيقة لبعض رجالاتها وشيوخها، هذه هي العَشائر العراقية التي لَعَبت وعلى الرغم من ذلك دَورآ كَبيرآ في صِناعة وتَشكيل تأريخ العراق وساهمت في رَسم خارِطة الدَولة العِراقية الحَديثة بِحدودها الحالية فكانت العَمود الفَقري لهذه الدَولة، ورغم حالات التمرد والعصيان ضد الحكم العثماني المستبد الجائر الذي عمل على التنكيل بِبعض هذه العَشائر وشِراء ضمائر وذِمم بعض من رجالاتها وتقوية نفوذهم وجعلهم شيوخآ، لهم سلطة مستمدة من سلطة&السلاطين العثمانيين، إلا إن&هذه العَشائر تَركت بَصمة عَظيمة عِندما إنتفضَت بِوجه الإحتِلال الإنكليزي وقاد شيوخها ومنهم البطل شَعلان أبو الجون شَيخ عَشيرة الظوالم والشيخ ضاري أحد شيوخ عَشيرة زوبع وغيرهم ثورة عارمة بوجه ذلك الإحتلال عام 1920 وفرضت بعض شروطها عليه وأهمها إنها أفشلت مشروع الإحتلال في إلحاق العراق بالهند عن طريق جلب الآلاف من الهنود وتوطينهم في العراق، بل أكثر من ذلك حَيث مَنعت تلك العشائر الهجرات اليهودية الى العراق (وليس اليهود العراقيين الموجودين أصلآ في هذا البلد ).

وفي العَهد المَلَكي تَرسخ نُفوذ العَشائر أكثر وقَويت شَوكتهم، وَدخلوا قُبة البَرلمان وشاركوا في كُل المَجالس النيابية،وَتَقلدوا بَعض المَناصب السياسية، وكانت العائلة المالكة تُحاول كسب ود شيوخ العشائر وإرضاءهم، وَتَبتعد عن حالات الصدام معهم،يقينآ منها إن العشائر هي صمام أمان هذا البلد، الى أن جاءت ثَورة الزَعيم الراحل عبد الكريم قاسم عام 1958 وَكان على رَأس أولويات عَملها هو تَحجيم دَور العشائر وَسن قانون الإصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي الشاسعة التي كان يَستحوذ عليها بَعض شيوخ العشائر على الفلاحين والفقراء المسحوقين، فقد&تَجسَدت دولة المواطنة فعليآ، وَتقَلصت الفَوارق الطَبقية بين فئات الشَعب وَتم تَخفيف نِسب الفُقر الى دَرجات معقولة.

ولم يَدُم الأمر طويلآ فَقد قُتل الزَعيم قاسم وتَم السَطو على السُلطة وإغتصابها من قِبل زُمر البَعث الظَلامية التي عاثت بالبلاد والعِباد فسادآ وقتلآ وعَملت على إستنساخ نفس التجربة العثمانية في التعامل مع العشائر مستخدمين معهم مبدأ العصا والجزرة فإنهارت بالتدريج القيم العشائرية مع صعود وتنامي قوة البعث، وقد جَرت مُحاولات لإستعادة هيبة الدولة ورد الإعتبار للعشيرة من خلال قادة حقيقيين قاموا بحركة أشبه ما تَكون بالثورة عام 1970 والتي كانت تَهدف الى إنقاذ الوطن وقيم المُجتمع من مُحاولات التَدمير الممنهج، ومن هؤلاء القادة&المرحوم عبد الغني الراوي، والشيخ الشهيد صفوك ريكان النمراوي، والشيخ راهي عبد الواحد سكر آل فتلة، والسيد الشهيد مهدي الحكيم، والمرحوم العقيد صالح مهدي السامرائي،والمرحوم الملا مصطفى البرزاني، ووالدنا الشهيد الشيخ مفتن ضيغم الساعدي الملقب ب ( مفتن جارالله )، ذِكرنا هنا للوالد ليس الغَرض منه شَخصَنة الموضوع أو التمجيد أو الإشهار، لكنها حقائق نذكرها وقد وثقها حتى نظام صدام في الكثير من الصحف والمجلات وآخرها كتاب ( محاولات إغتيال الرئيس العراقي ) لمؤلفه الأخ غير الشقيق لصدام ومدير مخابراته برزان التكريتي.

وبعد تنفيذ حُكم الإعدام الجائر بعدد من هؤلاء ومنهم والدنا وفي قاعة المحاكمة وفي قفص الإتهام، أدركت سُلطة البعث قوة العَشائر وخاصة عشائر الجنوب التي كان عدد منها يُدين للوالد للقيام بتلك الثورة، التي لو كُتب لها النجاح لجنبت العراق كل هذه الويلات والحروب الدموية، فَتحول بعد ذلك أغلب شيوخ العشائر ومن كل محافظات العراق حتى الكثير من عشائر كوردستان الى مجرد موظفين في بلاط صدام،علاوة على إن الشيخ الغير منتمي لحزب البعث يكون مَغضوبآ عليه ومُطاردآ، بل وصل الأمر بِصدام ومُستشاريه القيام بإختيار الشيوخ بأنفسهم، ويتذكر العراقيون&جيدآ مصطلح (شيوخ التسعينات ) في إشارة الى هؤلاء الشيوخ على إنهم مُجرد دُمى من صُنع النِظام.

وبعد سُقوط نظام صدام واصل كيان العشيرة تدهوره، فبعد أن كان شيخ العشيرة على العموم كريمآ غيورآ أصبَحَت الغالبية منهم تستجدي رجل الدين المعمم، أو تراهم يُهرولون خَلف هذا السياسي أو ذاك ليحصلوا منه على الفُتات، وآخرين منهم إمتهنوا التسليب وإحتضنوا الإرهاب،همهم الحصول على الأموال ليواصلوا بها البذخ والترف، والسَمر في خيام الغَجَر.

&

[email protected]