إذا كان رضاع الكبير مأزقاً أخلاقياً للإسلام الوهابي المعاصر، فإن الفطام مأزق السياسية الشيعية.

قوى الشيعية السياسية العراقية عاجزة حتى الان عن اتخاذ طريقها كجماعات سياسية منفصلة عن المذهب، عاجزة عن خوض غمار المنافسة لفترات طويلة دون ان تجد نفسها مضطرة الى العودة نحو الحضن الام، حضن البيت السياسي الشيعي الذي حلم به أحمد الجلبي، والذي اتخذ شكل الائتلاف العراقي الموحد بنسختيه الانتخابيتين المرقمتين 169 و555.

الثقة الشيعية بالعمل منفرداً دون العودة الى الجماعة المذهبية، ظلت محدودة. وكلما ذهب فصيل نحو الامام عاد منحسرا بفعل التحولات الداخلية وصراع المكاسب المحدود. المالكي، عندما خرج عن اجماع الأحزاب الشيعية في انتخابات 2010 لم يفعل لأنه تخلص من عقدة المذهب، بل فعل لأنه أراد المذهب تابعاً، فاجتاز الخط الاحمر، ما اجبر على العودة عبر مدخل قيادة الحشد الى الشراكة الشيعية. الصدريون فعلوا الامر نفسه، ليجدوا ان الأمور افلتت منهم، ما اضطرهم الى الموافقة على ما رفضوه سابقا. الثلاثي، المجلس والدعوة والتيار، عاجزون عن العمل بعيدا عن الاصطفاف الشيعي، وان تغيرت الاشتراطات، وحين ينفرد أحدهم، فهو يفعل من اجل اخضاع الاخرين، او بصيغة ادق ان يكون سيد المذهب الذي يقود العراق وفق منظور الشيعية السياسية، وليس العراق وفق منظور الدولة الحديثة. هذا يعني بالضرورة، إعادة الكرد الى وحدتهم، والسنة الى اتحادهم!

التيار الصدري، او كتلة الاحرار، قدم مقاربة جديدة للعودة نحو التحالف الوطني، او بعبارة أخرى العودة للشطر الشيعي المخاصم للمالكي، ان تكون النجف هي المرجعية وليس إيران. نظرياً، الامر تطور مهم، والجرأة الشيعية بقول "لا" ضد ولاية الفقيه، شجاعة. أما عملياً، فإن النجف في السنوات الماضية لعبت دور الواجهة، وطهران، عبر سليماني، السر. لذا، ليس مفهوما ان يشترط جعل السيد السيستاني هو المرجع وليس خامنئي، لأن الواقع حتى الان يقول ان الاول هو المرجع الذي يلجأ له الجميع لحل المشاكل امام الاعلام، لكنهم جميعاً لم يطيعوه، بل اطاعوا الجمهورية الإسلامية، لأنها ان قطعت عن أي فصيل المال والسلاح، ظل حائرا.

فعملياً، وإن كان مهما هذا الوعي العربي او العراقي الساعي لوضع مساحة مع الجانب الإيراني، لكن ما دام نقطة انطلاق التفكير من التشابه المذهبي، والعودة للمرجعية الدينية، فان الجمهورية الاسلامية تبقى قادرة على العودة، حتى مع فرضية ضعفها او تقليص نفوذها. فكما&ان السنية السياسية هي اردوغانية او سعودية او اخوانية، فان الشيعية السياسية هي في الوقت الراهن إيرانية سياسية، لأن ولاية الفقيه هي الطاغية على المشهد السياسي الشيعي. وحتى الصدريون لم يخرجوا فقهياً عن فكرة ولاية الفقيه، كل ما هنالك، انهم غيروا تلك الولاية من عابرة للحدود الى ولاية فقيه محلية او وطنية او قطرية، مع ملاحظة ان الصدريين اعتمدوا لفترة غير قليلة على المرجع كاظم الحائري الداعم لمركزية السيد خامئني.

لذلك، طريق العودة لسيد شارع الرسول وليس امام حسينية جمران، يمكن ان تكون استقلالا عن ولاية الفقيه الإيرانية بشرط ان تبنى دولة عراقية قادرة على حماية المسافة بين النجف ومنافستها هناك، لان المرجعية النجفية، مهما بدت قوية، لا تمتلك النفوذ الكافي لمواجهة قوة دولة كبيرة في الشرق الأوسط، ولم يسجل في السنوات الماضية انها تقاطعت او دخلت في مواجهة علنية صريحة معها، لان هناك مصالح متداخلة لا يستطيع أي مرجع نجفي التفريط بها في الوقت الراهن.

وبعيدا عن كل هذه "الحزورة" النجفية، القمية، الولاية فقيهية، هناك سؤال أساسي يطرح في ظل الحديث عن العودة للتحالف الشيعي: ما الفرق بين تحالف يقوده الجعفري او الحكيم، ما دام تحالفا يمثل الشيعة؟ وهل ان قوة قدمت نفسها راعية للإصلاح ككتلة الاحرار، وتياراً قدم نفسه قوة مناهضة للمحاصصة مثل التيار الصدري، يمتلك مبررات كافية لأن يعود الى نفس النقطة التي صنعت المحاصصة؟

الجواب باختصار، ان إعادة تشكيل التحالف الوطني، هو بالضرورة شرعية للمحاصصة، بمرجعية السيستاني او بمرجعية الخامنئي. المهم انه التحالف الشيعي، وليس أي ادعاءات أخرى.

والأهم، ان الانتخابات المقبلة، يراد لها ان لا تنتج الجديد، بل الثلاثي الشيعي نفسه، وأيضا قادة السنة وقادة الكرد بدون تغييرات تذكر... ليبقى المشهد، معادلة دائمة بين فرقاء يتبادلون الأدوار.