&

هناك حالياً في عالمنا العربي، أعداد كبيرة ومتزايدة تتجاوز الآلاف من الحاصلين على درجات الماجستير والدكتوراه والألقاب العلمية الجامعية الأخرى في العديد من مجالات العلم والمعرفة. ولكن رغم ذلك لا يزال لدينا تأخر علمي كبير، الأمر الذي يفرض ويطرح &العديد من التساؤلات المهمة، من بينها: هل إجراء البحوث والحصول على الدرجات والألقاب العلمية، هو فقط بهدف الترقي والوجاهة والمكانة الإجتماعية؟ أيضاً من حقنا أن نتساءل عن جودة هذه البحوث والرسائل العلمية، وهل تمثل إضافات ومساهمات علمية ومعرفية حقيقية تفيد المجتمع والوطن والعالم؟ وكذلك التساؤل عمن يحملون شهادات عليا وهمية مزيفة، وخطورتهم على الأفراد والمجتمع؟
لم يعد الكثيرون في عالمنا العربي يكتفون بالحصول على الدرجة الجامعية الأولى المتمثلة في البكالوريوس أو الليسانس. فهناك أعداد كبيرة تسعى للحصول على الدرجات العلمية العليا، كدرجة الماجستير والدكتوراه، بأيسر وأسرع السبل وأقصر الطرق. تُمنح لهم الدرجة وتبقى بحوثهم ومشاريعهم البحثية حبيسة الأدراج وعلى أرفف المكتبات والمكاتب تغطيها الأتربة، دون أن يستفيد منها المجتمع والوطن في حل مشكلاته وخدمة مشاريع التنمية المختلفة. ويبقى المستفيد الوحيد منها هو أصحابها، ليسعدوا بالحصول على الترقية والوجاهة والمكانة الإجتماعية المتمثلة في لقب "دكتور".&
ولكن، يمكن القول بأن هناك نوعين من البحوث والرسائل العلمية الجامعية التي تم إعدادها في عالمنا العربي. فبعضها بحوث ورسائل جادة ورصينة ودقيقة في منهجيتها العلمية، تكلفت الكثير من المال والجهد والوقت، لم يكن هم أصحابها الحصول فقط وبسرعة على الترقية أو الدرجة. ولذلك فهي بحوث ذات فائدة تطبيقية وتمثل إضافة حقيقية معرفية. والبعض الآخر من هذه البحوث، يمكن القول بأنها رديئة الجودة والنوعية، لا يمكن الاستفادة منها، فكان هدف أصحابها، هو الحصول فقط على الدرجات والألقاب العلمية بأيسر وأسهل الطرق وأقل الجهد والمال وفي موضوعات علمية مستهلكة بحثياً، لتكون النتيجة في النهاية إمتلاء أرفف المكاتب والمكتبات، وإختلاط الغث بالسمين بهذه الرسائل والبحوث.
ولعل السؤال المهم المطروح: هل لدينا بالفعل خطط وإستراتيجيات فعالة لتسويق البحوث والرسائل الجامعية الجادة، للإستفادة منها في مشاريع إستثمارية وتنموية تفيد المجتمع والوطن، لتحقق بالفعل في النهاية نهضة علمية حقيقية؟&
للإجابة على هذا السؤال لا بد أن يستشعر جميع أفراد المجتمع أن قيمتنا ومكانتنا لن تتحقق في عالم اليوم إلا بتقدير قيمة العلم والعلماء وأهمية البحث العلمي الجاد، ولن يتم هذا إلا بنشر ثقافة قيمة وأهمية العلم والبحث العلمي في النهوض بالمجتمع والوطن، وذلك من خلال العديد من البرامج التربوية والإعلامية الجادة. كما أن البداية الحقيقية لتحقيق القيمة التطبيقية للبحوث والمشاريع العلمية، تكمن بداية في خطط وبرامج الدراسات العليا بالجامعات ونظم التسجيل لدرجات الماجستير والدكتوراه. فمن الضروري أن ترتبط خطط تسجيل الطلاب بإحتياجات وحاجات المجتمع والوطن، حتى لا تكون بحوث ورسائل تقليدية مكررة ومستهلكة، وأن يتم إختيار موضوعات التسجيل بعناية بعيداً عن الأهواء والمصالح الشخصية. فالملاحظ أن الكثير من الباحثين يقوم بالتقليد التام للبحوث المنشورة بالدوريات العلمية، حيث لا تخرج بحوثهم عن تغيير في المصطلح أو تأثير مثلاً عامل أو متغير العمر أو الجنس أو الحالة الإجتماعية، ليسهل عليهم إتمام وإنهاء دراستهم بسرعه وسهولة، الأمر الذي يجعلها في النهاية بحوث تقليدية مكررة ذات نتائج قليلة القيمة والأهمية، لا تضيف جديداً للمعرفة العلمية.
هناك فئة من أساتذة الجامعات الذين يمارسون سلطتهم وسطوتهم في الإشراف على الرسائل الجامعية، حيث يشرفون على أعداد كبيرة من الطلبة الباحثين. فقد يتجاوز إشرافهم على رسائل الماجستير والدكتوراه الـ 20 رسالة. وقد تنقصهم الخبرة العلمية والبحثية، الأمر الذي يعوق متابعتهم وتوجيههم للطلاب وتخصيص الوقت الكافي لهم واللازم لتخريج أجيال علمية بحثية جديدة تشكل إضافة علمية حقيقية وتستطيع أن تنقل ما تعلمته من معرفة وخبرة لطلابهم في المستقبل. فالبحوث والرسائل الجامعية والإشراف بحاجة عاجلة لإعادة نظر شاملة. كما أن هناك ضرورة عاجلة لتغيير وتعديل نظم وسياسات الترقيات العلمية الجامعية، والإبتعاد على سبيل المثال عن نظام "شيلني وأشيلك"، بمعنى تضع إسمي على بحثك، في مقابل وضع إسمك على بحثي، فيكون لكل واحد منا بحثان. فأصبح المهم هو كثرة البحوث، وليس جودتها ونوعيتها.
التكالب المتزايد للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه في عالمنا العربي، بأقصر وأسرع الطرق وبأساليب قد تكون زائفة ولا تتماشى مع أخلاقيات البحث العلمي، هي في الحقيقة تنم عن خلل إجتماعي كبير، وتتطلب دراسة جادة لمعرفة أسباب ذلك وكيفية إنجاز رسائل وبحوث ذات قيمة وإضافة علمية لمجتمعاتنا والعالم.&
وهنا يجب الإشارة الى أنه في الدول المتقدمة، التي تحترم العلم والبحث العلمي، ليس جميع أساتذة الجامعات من الحاصلين على درجات الدكتوراه. فهناك أساتذة لا يحملون الدكتوراه، إلا أنهم متميزون في أبحاثهم وخبراتهم في مجالات بعينها. فهذه الدول تقدر أصحاب التميز والكفاءة وتستفيد منهم بغض النظر عن حصولهم على درجات الدكتوراه. بينما في عالمنا العربي نسأل أولاً عند التعيين في الوظائف الشاغرة عن الدرجة والرتبة العلمية للمتقدم لشغل وظيفة عضو هيئة تدريس بالجامعة على سبيل المثال، فإذا كان برتبة أستاذ فإنه سوف يظفر بالتأكيد بالوظيفة، مع أنه قد يكون لدى المتقدم عليها، بدرجة مدرس، خصائص أخرى متميزة مثل الخبرة في مجاله وأهمية موضوع رسالته العلمية والأمانة والنزاهة العلمية التي تعد أكثر أهمية من الرتبة العلمية. وهذا إن دل فإنما يدل على خلل إجتماعي في مجتمعاتنا التي تقدر أفرادها على أساس ما يمتلكونه من درجات وألقاب علمية. ولهذا أيضا نجد إنتشار الدرجات والشهادات الوهمية التي يلجأ للحصول عليها أصحاب النفوس الضعيفة.
ينبغي القول بأن هناك لدينا بالفعل في عالمنا العربي العديد من النماذج والكفاءات العلمية الجامعية رفيعة المستوى والمتميزة في العديد من مجالات العلم والمعرفة، التي قدمت إضافات علمية ومعرفية حقيقية شهد بها الجميع في الداخل والخارج، لكنها فقط في حاجة ماسة للرعاية والعناية والإهتمام اللائق، الذي يتناسب مع ما قدمت من جهد وعطاء علمي جاد ومتميز ، فهي تعمل في صمت ولا تحب الظهور ودون أن تزاحم بالمناكب والأكتاف. المجتمع والوطن في حاجة ماسة لتلك النماذج العلمية، للإرتقاء والنهوض الحقيقي بالأوطان.&
وينبغي التأكيد في النهاية على أهمية تحويل الجامعات العربية الى مراكز وبيوت خبرة للإستشارات العلمية، بحيث تتحول البحوث والدراسات والأفكار الجادة للباحثين، الى مشروعات وآليات عمل تسهم في وضع حلول للمشكلات القائمة وتنهض بمجالات التنمية المختلفة في المجتمع، وذلك من خلال التوسع في إنشاء وحدات لتسويق البحوث بالجامعات، تكون بمثابة حلقة إتصال وتواصل بين نظم الدراسات العليا ومراكز البحوث بالجامعات، ومؤسسات وهيئات المجتمع المعنية بهذه البحوث. ويمكن للمؤسسات أن تقدم للجامعات قائمة بإحتياجاتها من موضوعات بحثية أو مشكلات تواجهها وتتطلب حلول معينة، مع توفيرها للدعم المناسب لهذه البحوث، مع تنظيم لقاءات بصورة دائمة بين الباحثين والمستثمرين للتعرف على البحوث والمجالات ذات الاهتمام المشترك، والتي تحتاج إلى تعاون ودعم مستمر، الأمر الذي يحقق في النهاية التلاحم والتواصل والإتصال التام بين الجامعات والمجتمع، وكذلك أهمية وضع حد أقصى لعدد الرسائل التي يحق للمشرف الإشراف عليها للحصول على رسائل علمية ذات قيمة مضافة للمعرفة. وعموما الأمر يتطلب مراجعة وضع الدراسات العليا بالجامعات العربية، من حيث النصاب القانونى للأستاذ في الإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه، وإمكانية وقف التسجيل بالدراسات العليا لمدة معينة في بعض الكليات،خاصة مع وجود كم كبير من الرسائل العلمية التي لم تتم مناقشتها، وذلك بهدف رفع مستوي جودة وجدوى الدراسات العليا والعائد من منح رسائل الماجستير والدكتوراه.
ومن المهم أيضاً العمل الجماعي والتعاون في البحث العلمي، أي العمل البحثي بروح الفريق، ضمن مجموعة علمية بحثية متنوعة ومتكاملة برئاسة أستاذ متميز وخبير، سواء من داخل جامعته أو من خارجها، حتى يصير بالإمكان في النهاية إنجاز بحث علمي متكامل متميز، ذي قيمة ومكانة وطنية وعالمية، يمثل إضافة علمية للمعرفة الإنسانية. كما أن هناك ضرورة حاجة لوضع ضوابط وإجراءات وآليات لوقف مصادر الشهادات الوهمية والمزورة، التي تمثل خطورة على المجتمع.
د. خليل أبو قورة باحث واستشاري وكاتب
&