&
تتصدر الدول الإقليمية والمجموعات الاقليمية والدولية الوازنة في مختلف مراحل تاريخ البشرية مشهد السياسات والاستراتيجيات المتنافسة او المتصارعة بصفتها صانعة لتلك السياسات، ومساهمة في مختلف تلك الاستراتيجيات، او موضوعا لها جميعها، سواء في سياق مقاومتها والعمل على التقليص من مضاعفاتها ومفاعيلها السلبية، او في سياق الانفعال بها، بشكل سلبي يترجم واقع من لا حول ولا قوة له إزاءها.
وقد أدى ذلك التنافس والصراع، عبر التاريخ، الى الدخول في حروب إقليمية ودولية طاحنة، نجم عنها تفكيك دول وامبراطوريات، وإعادة رسم خرائط العالم على قاعدة نتائج تلك الحروب والمواجهات الساخنة كما هو الأمر بالنسبة للحربين العالميتين الاولى والثانية على سبيل المثال وليس الحصر.
اي انه &في خضم تلك الحروب تتفكك تحالفات وتتشكل اخرى، &وتضمحل دول كانت، الى الأمس القريب، عنصرا فاعلا على صعيد العلاقات الاقليمية والدولية لتصبح أثرا بعد عين، وقد تظهر في هيكليات اخرى تعكس حالة تموضعها على الساحة الاقليمية والدولية بعد ان تكون الحروب والنزاعات قد وضعت أوزارها او تحولت الى اشكال غير ساخنة او باردة كما كان عليه الأمر ايام الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق والغربي الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة. ولم تكن المجموعات الاقليمية او الدولية التي تشكلت في تلك الفترة على قاعدة قارية او قاعدة فكرة عدم الانحياز غير مظهر من مظاهر التحالفات الاقليمية والدولية التي تؤكد فرضية انطلاق هذه المقالة بشكل ملموس.
لكن يبدو ان هوامش حرية الحركة والمبادرة بالنسبة لعدد من البلدان قد اصبحت أضيق مما كانت عليه خلال صراعات القرن الماضي بحيث اصبحت ضمن دوائر الانفعال بالسياسات الاقليمية والاستراتيجيات الدولية لعدد محدود من الدول العظمى حتى عندما توحي انها فاعلة فيها على هذا المستوى او ذاك.
ولعل ما يجري من احداث وحروب وتفاعلات سياسية واستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، خلال العقدين الأخيرين، عامل كاشف لهذا التحول في الأدوار والمواقع في خضم حروب اعادة رسم خرائط المنطقة السياسية والجغرافية.
ليس مهما شكل عناوين هذه الحروب، ولا طبيعة أساليبها، والأسلحة المستخدمة فيها، بل المهم ان أهدافها القريبة والبعيدة لا تختلف، في جوهرها، عن أهداف الحروب والمواجهات الاقليمية والدولية الساخنة منظورا اليها من زاوية محاولات توسيع دوائر النفوذ من خلال العمل على عرقلة مشاريع الخصوم والأعداء او عن طريق الاعتداء على هؤلاء بشكل مباشر او غير مباشر..
ان التفكير في مسمى "الربيع العربي" يفيد ان الحركات الجماهيرية التي عرفتها بعض البلدان العربية، قبل خمس سنوات، بشكل تلقائي وعفوي، ربما، وتحت ضغط تضافر مفاعيل الفقر والاستبداد والفساد، احيانا، قد تحولت، بفعل تدخلات إقليمية ودولية صريحة، في اغلب الأحيان، الى أداة لتلك القوى للتأثير في مسارات الدول والأنظمة السياسية لإعادة تشكيل المنطقة وفق ما تقتضيه مصلحة تلك الدول.&
ولا يشذ عن هذا المنحى موضوع العقوبات الاقتصادية والسياسية ومسألة التفاوض بين الدول الكبرى وإيران حول برنامجها النووي على سبيل المثال. ذلك ان خلفية هذه الأزمة في أساسها ذات طبيعة &استراتيجية تتوخى من منظور الغرب العمل على لجم ما اعتبره اندفاع ايران نحو امتلاك السلاح النووي لفرض نفسها على المجتمع الدولي بصفتها دولة نووية، وما يترتب على ذلك من آثار على التوازنات الاقليمية والدولية وخاصة بالنسبة لمنطقة الخليج العربي التي تحرص الولايات المتحدة على ضمان أمنها على مختلف المستويات وخاصة منها الامن الخارجي. ورغم ان ايران قد نفت عن نفسها باستمرار الانخراط في هذا المسعى، فإنها تصرفت مع ذلك بطريقة توحي انها قد أدركت ان هذه هي فرصتها لتحسين مواقعها التفاوضية، في المستقبل، باعتبارها دولة إقليمية وازنة ليس بالإمكان تجاهلها، علاوة على إيمانها &ان الصراع من اجل امتلاك القدرات النووية لأغراض سلمية هو حق من حقوقها الطبيعية . ولم تغب عنها الغايتان معا عندما انطلق مسلسل التفاوض بينها وبين المجموعة الدولية الى ان تم إنجاز اتفاق السنة الماضية الذي اعتبرته اتفاقا تاريخيا، والذي اثار تحفظات واعتراضات، بل وحفيظة، &بعض دول المنطقة وفي مقدمتها اسرائيل بالاضافة الى دول الخليج وخاصة منها المملكة العربية السعودية التي اعتبرت الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها واسترجاع أرصدتها المجمدة في البنوك الغربية دعما غير مباشر لطهران في سعيها الحثيث الى بسط نفوذها وسطوتها على دول المنطقة. & &
وقد جاءت التطورات الدراماتيكية في اليمن العام الماضي حيث سيطر أنصار الله عمليا على السلطة في صنعاء، لتؤكد مخاوف بعض دول الخليج من تنامي النفوذ الإيراني على حسابها، وخاصة المملكة العربية السعودية التي بادرت الى انشاء تحالف بقيادتها لمواجهة ما اعتبرته مخاطر تطورات الوضع اليمني على أمنها وأمن دول الخليج قاطبة والتدخل العسكري المباشر في اليمن بطلب من الرئيس هادي، أي تحت عنوان الدفاع عن الشرعية، وهو تدخل لم يكن موضع إجماع من طرف مختلف القوى الوازنة على المستوى الاقليمي والدولي رغم محاولة تقديم ذلك التدخل انه يدخل في سياق تطبيق قرار مجلس الامن الدولي الخاص باليمن رقم 2216.&
&
وفي المقابل، تم التعامل مع الحراك الاجتماعي السياسي السوري، قبل خمس سنوات، على أساس كونه ثورة شعب في مواجهة الاستبداد السياسي من قبل بعض القوى الاقليمية والدولية، والتي استنتجت من ذلك الحراك ان على النظام السوري ورئيسه بشار الاسد ان يرحل، على غرار ما وقع في تونس ومصر اذا لم يرغب في ان يرحل بقوة السلاح، كما حدث بالنسبة للنظام الليبي ورئيسه معمر القذافي الذي أسقطه حلف شمال الاطلسي في سياق ما تم اعتباره دعم قوى الثورة الليبية وحماية المدنيين من بطش القوات العسكرية النظامية.
هنا حدث تموقع جديد، تماماً، مقارنة مع ما جرى في اليمن حيث القوى الدولية والإقليمية التي تساند ما تسميه الشرعية الدستورية في اليمن هي ذاتها التي تعمل على نزع الشرعية الدستورية عن الحكومة السورية، كما انها هي التي مولت ودعمت بالسلاح جماعات متباينة من المقاتلين الذين يرغبون في إسقاط النظام السياسي القائم بدعوى مساندة الثورة على تحقيق أهدافها. وقد تم انشاء تحالفات وائتلافات ومعارضات لذلك، لإعطاء الشرعية لمجموعات مقاتلة دون غيرها لتحقيق الغاية إياها أي إسقاط النظام بواسطة العمل المسلح قبل ان يتبين للبعض، من تلك القوى، ان هذا هو اضمن طريقة لبروز تيارات متطرفة وارهابية تنشر الرعب في سورية وجوارها، القريب والبعيد، دون ان تكون قادرة على تحقيق الغاية التي تم من اجلها دعمها بالسلاح والمقاتلين ومختلف تسهيلات المرور وغيره من اشكال الدعم المالي والعسكري واللوجستي الذي اصبح معروفا لدى الجميع.&
وإذا كان من المبكر استخلاص كل العبر الممكنة من الحالتين اليمنية والسورية فلا جدال في أنهما مناسبتان لإعادة تموقع عدد من الدول الاقليمية في المنطقة وفي مقدمتها السعودية وتركيا وإيران علاوة على كون المسألة السورية مدخلا واضحا لجعل روسيا من خلال دعمها لسورية قوة دولية كبرى لا مناص من اخذ موقفها بعين الاعتبار في مختلف المعادلات الاقليمية والدولية في المستقبل بما يؤشر على ان لبنات نظام دولي جديد متعدد القطبية بدأت تبرز على ارض الواقع بحيث لم يعد بالإمكان احتكار القرار الدولي من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. وهو ما سيتم أخذه بعين الاعتبار من قبل مختلف قوى المجتمع الدولي عند معالجة الأزمات القديمة والمستجدة على صعيد العلاقات الدولية في المستقبل.
ولعل هذا عامل جوهري في تفسير مواقف دول الخليج العربي الانتقادية الأخيرة من سلوك الولايات المتحدة السياسي تجاه قضايا المنطقة حيث لمست تراجعا كبيرا في التزاماتها التقليدية تجاه حلفائها وخاصة بعد توقيع الدول الكبرى مع ايران للاتفاق حول برنامجها النووي والعمل على تطبيع العلاقات معها وإشراكها في مسلسل تسوية بعض القضايا الاقليمية والدولية على شاكلة القضية السورية.
وهذا يعني ان هناك حركية دائمة على مستويات مواقع ومواقف وأوزان الدول والتحالفات الدولية تحددها الرؤى المختلفة الى المصالح والأدوار التي تعتقد تلك الدول انها هي مصالحها التي ينبغي الدفاع عنها والأدوار التي تعتقد انها منتدبة للقيام بها دون غيرها وان أدى ذلك الى تصادمها مع الغير فحسب ولو أدى ذلك الى رصد بعض التعارض في المواقف والأجندات التي تحمل هم تنفيذها
&