تعد القضية السورية واحدة من أعقد القضايا التي تشكل عبأً على المجتمع الدولي، فمنذ انطلاقة موجة الربيع العربي نهاية عام 2010 كانت سوريا واحدةً من تلك الدول التي ما لبثت أن انخرطت في الاحتجاجات ضد النظام القائم، لكن واقع سوريا الجيوسياسي، وطبيعة نظام الحكم وعلاقاته التاريخية، فضلاً عن ضعف تأثير المعارضة الداخلية، كلها كانت عوامل ساهمت في جعل القضية السورية تمر بأزمةٍ لم يكن من الممكن التراجع عن تداعياتها، حيث لم يكن هنالك سيناريوهات لحلول متوقعة على المديين القريب والمتوسط وهو الأمر الذي عكسته خطة النقاط الست للمبعوث الدولي الخاص إلى سورية كوفي عنان في شباط 2012 والتي كانت منبثقة من الرؤية الدولية للتعامل مع الصراع في سوريا من مبدأ الحد من الضرر والانتهاكات دون البحث في جذور الأزمة وحلولها الحقيقية. ولعل أبرز اختراقين على المستوى الدولي حققتهما الأمم المتحدة بما يتعلق بالملف السوري كانا القرار 2254 من جهة، وقبلهم حادثات المجموعة الدولية لدعم سورية في فيينا والتي أفرزت غرفة الدعم الإنساني وغرفة وقف العمليات العدائية والتي تعتبر أول جسم تنسيقي على المستوى الأمني بما يتعلق بسوريا.

لماذا ليست هنالك سيناريوهات قريبة وواقعية للحل؟!

للبحث في هذا السؤال ومحاولة الإجابة عليه يجب النظر في التحالفات المشكلة وتغيّر خريطة التوازنات السياسية في ظل المتغيرات الأخيرة.

لعل القاسم المشترك بين جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية في سورية يتمثل في "ملف القضاء على الارهاب" ولكن يبقى السؤال عن أي إرهابٍ نتحدث ومن أيّ منظور؟! هل هو إرهاب الدولة، أم إرهاب المجموعات المسلحة، أم إرهاب القاعدة وداعش، أم إرهاب حزب الاتحاد الديموقراطي؟ حيث أنه تحت ستار هذا العنوان تختبئ المصالح والغايات لكل الأطراف المتدخلة في القضية السورية، والتي بدأت بتشكيل تحالفات متوقعة وأخرى غير متوقعة مع طول أمد الصراع.

تنقسم التحالفات المشكلة والتي لها سمة الاستدامة النسبية في الضفة التي تقف عليها؛ بين مجموعة التحالف الدولي الذي شكلته الولايات المتحدة الأميركيةعلى خلفية "القضاء على الإرهاب" واتخذ من شمال شرق سورية مجالاً جغرافياً لعمله (وهي مناطق تواجد تنظيم الدولة الإسلامية سابقاً). وبين مجموعة حلفاء النظام السوري من روسيا الاتحادية، والجمهورية الايرانية، والذي عمل فيما بعد على تشكيل ما سمي "بمجموعة أستانة" الذي انضمت له تركيا.

وترنحت الدول الإقليمية المؤثرة في الملف السوري ومنها تركيا والسعودية والإمارات وقطر، بين التحالفين السابقين، وغيرت تموضعها، واقتربت وابتعدت من التحالفين السابقين بحسب تطور الأوضاع الإقليمية وعلاقاتها مع بعضها البعض، ومع القوى الدولية.

عمل كل حلف من الأحلاف السابق ذكرها على مسارٍ مختلفٍ للحل او كما يظهر للعيان على الأقل، حيث اتخذ المعسكر الغربي عموماً من مسار جنيف مساراً أساسياً للحل، مع مسارٍ داعم له عن طريق تشكيل مجموعة أصدقاء سورية.

أما الحلف الآخر، فقد بدأ&بمسارٍ إقليميٍ في أستانة، ضم أهم قوتين إقليميتين مؤثرتين في سورية وهم تركيا وإيران إلى جانب روسيا في قيادة الحلف، حيثت مفرض هذا الحلف من خلال القوة الضاربة للقوات الروسية على الأرض السورية، ومن ثم تحول إلى مسار تفاوض عسكري في أستانة، عقبه مسار يناقش القضايا الدستورية والسياسية.كان هذا المسار ذو فعالية على الأرض، وفرض نفسه بقوة على مسار جنيف. ولعل أهم ما حققه هذا المسار أنه أعاد معظم الأراضي السورية في الجنوب والوسط إلى سيطرة النظام السوري، كما أنه جعل الدول الإقليمية والدولية تعيد النظر بمواقفها من النظام السوري إلى حدٍ ما بغض النظر عن التصريحات الإعلامية.

المصالح المشتركة والمتناقضة:

في هذا السياق لابد من الخوض في مناطق النفوذ المختلفة داخل الحدود السورية والتي بعضها تم التفاهم عليه في حين ما&تزال أخرىتحت المماحكات.

بعد التدخل الروسي العسكري في سوريا في عام 2015 أصبحت سوريا عبارةًعن مناطق نفوذٍ تتبع بشكلٍ مباشرٍ لقوىً إقليمية ودولية لها مصالحها، يمكن تحديد هذه المناطق بمناطق النفوذ الروسي وثقلها في الساحل السوري، مناطق النفوذ الأميركي في شمال شرق سوريا، مناطق النفوذ التركي في شمال غرب سوريا، ومناطق النفوذ الإيراني في دمشق وجنوب سوريا فضلاً عن بعض المناطق في ريف دير الزور. حيث أصبح النشاط العسكري لكل دولة محصوراً بشكلٍ شبه كليّ في&المناطق الجغرافية التي تشكل تفاهمات معلنة أوغير معلنة بين هذه القوى، باستثناءا لنشاطات العسكرية الحاصلة في المناطق غير المتفق عليها: مثل منبج، والشريط الحدودي مع تركيا، ومناطق ريف حماه الشمالي ومحافظة إدلب الواقعة على خطي التجارة الاستراتيجيين M4 وM5، وقاعدة التنف. وأصبحت هذه المناطق بثباتها وتغيره اتشكل معيار اًحساسًا التغير المصالح وتقاربها أو تناقضها، حيث أمسى العنوان العريض الذي تنطوي تحته كل التغيرات الحاصلة هو "الصراع على الملفات الأمنية".

السيناريوهات المرجحة في سوريا:

أمام هذا الواقع المعقد& وتعدد مسارات الحل وتناقضها بتناقض مصالح من يرعاها، يمكن القول أن هنالك سيناريوان مرجحان للوضع السوري: إما سيناريو انعاش التوازن، أو سيناريو الصدمة والمواجهة مع ايران.

أولاً: سيناريو إنعاش التوازن مع المنظومة الدولية:

وهو يستند بشكلٍ أساسيٍ إلى الضغط التركي في الشمال السوري، حيث هددت تركيا بشكل&واضح ببدء عمليةٍ عسكريةٍ في شمال شرق سوريا، تحت ذريعة حماية أمنها القومي، الأمر الذي أدى إلى اتفاقٍ جديد مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية شبيه بذاك الذي أبرمته تركيا مع روسيا بما يخص شمال غرب سوريا، حيث أن أي اجتياحٍ عسكري أو عمل منفرد من قبل الأتراك سيهدد بشكلٍ مباشرالمصالح الأمريكية في الملف السوري والتي تشكل فيها مناطق شمال شرق سوريا موطئا لاستناد الاستراتيجي لها.

ويبقي الملف الشائك جداً هو ترتيب منطقة إدلب، حيث أن أولوية الروس المعلنة في هذا الملف هوفتح الطرق الدولية، وحماية المنطقة الساحلية من أي هجماتٍ قد تحدث من منطقة الغاب وريف إدلب المحاذي، وبذلك سيتم تقسيم إدلب الى ثلث شمالي تسيطر عليه تركيا وثلثين جنوبي وغربي تسيطر عليهما روسيا. أما منطقة التنف فقد تم حسمها من قبل الولايات المتحدة الأميركية كموطئ قدم في جنوب سورية للحد من النفوذ الإيراني عبر العراق، وأيضا كنقطة قوة بما بتعلق باتفاق وقف إطلاق النارللعام 1974 في هضبة الجولان المحتلة. في حين أن منطقة منبج ستستمر بالخضوع للشد والجذب خصوصاً من قبل الروس الذين يريدون جنوبها، والأتراك الذين يريدون شمالها.

في هذا السيناريو هناك عدة نقاطيجب ملاحظتها:

•إن أي توافق في الترتيب الأمني للملفات المتعددة سيؤثر على الاتفاق السياسي، من حيث كونه يشكل ضمانة لثبات مكتسباتك&لطرف، وسيكون محتماً على كل طرف الدفع باتجاه اتفاقية سياسية للتعامل مع الملفات الانسانية في سورية حيث أن الاتفاق السياسي المتوقع ستطغى عليه صفة التفاهمات على تثبيت التوازن القائم مع الحد من الكارثة الإنسانية وضغط ملف اللاجئين دون وجود تحول سياسي حقيقي على المستوى الوطني في المدى المنظور.

•كما ستكون إيران أهم طرف معطل، وبالتالي كلما تم ضبط سلوكها والحد من أذرعها كلما أصبحت الترتيبات الأمنية تقترب من التوافق بشكلٍ أكبر بين الفرقاء المتدخلين وبخاصة الروس.

•يعد هذا السيناريو مطبق عملياً ولكن بشكلٍ بطيء، حيث تحاول القوى الدولية منع الاحتكاك، لذلك نرى أن هناك اتفاقاً لغرب الفرات وآخر لشرق الفرات، واتفاقاً منفصلاً لمنبج. ولذلك فإن ترجيحات إنفاذ هذا السيناريو ستكون في حال أراد التحالف الدولي كسب الوقت وذلك لأسبابٍ متعددة: منها عدم نضوج الحل السياسي أوعدم نضوج الظروف الذاتية لقيادة المرحلة أو عدم تحقق شرط السيطرة على التواجد الإيراني بعد.

٢. سيناريو الصدمة والتحدي في مواجهة إيران:

يهدف هذا السيناريو إلى خنق إيران في المنطقة، حيث يُتوقع من خلال هذا السيناريو تسليم كامل الشمال السوري لتركيا وبذلك تكون الجغرافية السورية منقسمة بين شمال وجنوب؛ أما الشمال فهو شمال شرق وشمال غرب، ويكون بنفوذ تركي-غربي وإدارة أمنية مشتركة أمريكية وتركية؛ تكون فيها هذه المنطقة ملاذاً آمناً للسوريين من نازحين ولاجئين، ومنطقة مستقرة أمنياً بشكل مديد لايتم تهديدها من قبل أي قوى بفعل الدعم السياسي الغربي (الأوربي والأميركي) ومشاركة الأتراك أصحاب الحدود الممتدة مع هذه المنطقة. إن تحقيق هذا السيناريو من شأنه حل مشكلة اللاجئين التي تؤرق الدول الأوربية وتركيا بغض النظر عن تأثير ذلك على ملفات العودة الطوعية والآمنة للنازحين واللاجئين إلى مناطقهم الأصلية وإحداث نوع من التغيير في ديمغرافية المنطقة الأمر الذي سيعزز النزاعات العرقية مستقبلاً، وضبط سلوك إيران في المنطقة الأمر الذي من شأنه أن يجذب دعماً كبيراً من طرف بعض دول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، كما سيحد من وجود تواصلٍ بريٍّ مع العراق ويخلق آلية مراقبة فعالة لمنع دخول تعزيزات ومليشيات إيرانية حيث يعدهذا الأمر هدفاً اميركياً ذ اأولوية.

إلا أن إنفاذ هذا السيناريو يتطلب الأخذ بعين الاعتبار عدة مسائل ومحاذير:

1.أن يتم تحقيق توافق بين المصالح الغربية والتركية، وهنا كإشارات إيجابية حول هذا الأمر بدأت بالظهور مؤخراً.

2.حماية الأقليات في هذه المناطق وخصوصاً الكرد في شمال شرق سورية مضافاً إليها منطقة&عفرين.

3.استلام العملية الأمنية وإدارتها بشكلٍ محترف من قبل الدول صاحبة النفوذ "تركيا والولايات المتحدة الأمريكية" وليس بالاعتماد على مرجعيات حزبية وعسكرية محلية مثل حزب العمال الكردستاني أو الفرق الإسلامية السلفية بمختلف مسمياتها والمرتبطة بالقاعدة ولا الشبكة الأمنية للنظام السوري بداعميه الروس والإيرانيين.

4.تصاعد التوتر بين الحليفين التركي والروسي بخصوص إنفاذ اتفاق أستانة الأمر الذي يهدد بانتهاء الحلف ودخول تركيا بشكلٍ نهائي في الحلف الغربي.

5.عدم ضمان ردة الفعل الروسية في حال عدم الأخذ بعين الاعتبار مصالحها الاستراتيجية المتعلقة بحماية مناطق نفوذها وخصوصاً في منطقة الساحل وجبال اللاذقية وسهل الغاب.

6.العلاقات التجارية التركية الإيرانية والتداخل الاقتصادي والحدود الطويلة المشتركة بين البلدين والتي من الممكن أن تؤثر على دخول تركيا في حلفٍ يتسم بالصدام المباشر مع إيران.

الترتيبات الأمنية والحل السياسي الوطني:

ما ذكر سابقاً& يقودنا للحديث عن احتمالات وجودعملية سياسية وطنية.

بناءًعلى&الأطراف المتدخلة في الملف السوري وتناقض مصالحها، كان من شبه المستحيل وجود حل سياسي جامع في سوريا، حيث قوبل المسار الذي رسمته الأمم المتحدة بعقباتٍ كبيرة كادت أن تجعله مساراً ميتاً، لكن ما فعله الروس بتجزئة الملف السوري إلى ملفات متعددة على أساسٍ مناطقي، وبفعل خروج الأتراك كدولة إقليمية فاعلة عن الفضاء الغربي (على الأقل فيما يتعلق بالملف السوري)، جعل من إمكانية حدوث حلول جزئية في سورية أمراً متاحاً، بالرغم من أن هذه التجزئة لا&تخدم القضية الوطنية السورية، وتساهم في ترسيخ نفوذ الدول المتدخلة واستمرار الصراع الخفي لفترات زمنية طويلة على الأرض السورية إلى أن هذا ما هو واقع حالياً.

يقودنا هذا الواقع إلى مجموعة من الاتفاقات الجزئية بين دول فاعلة مدعومة سياسياً ومحمية عسكرياً، ستسهم في تقريب وجهات النظر بما يتعلق بشكل الحل السياسي الوطني، وبالتالي الرجوع لمسار جنيف الذي ترعاه الأمم المتحدة بغض النظر عما تم&إنجازه وبنوده السابقة. ومن المتوقع أن تكون العملية مرتبطة بشكلٍ عضويّ بملف الترتيبات الأمنية حيث أن التحرك والتقارب التركي الأمريكي قد حرك المياه الراكدة والتموضع للقوى الدولية بعد الخلاص من داعش فيما يبدو أنه يمهد للاتجاه نحو الهدف الثاني وهو ضبط سلوك إيران في المنطقة، والتحرك باتجاه الحل السياسي والذي يمثل الوثيقة المطلوبة لضمان المكتسبات بين الفرقاء.

شارك في كتابة المقال:محمد الجسيم–رزان برغل