كنّا نعتقد، ونحن نستعدّ لعقد قمة "بيروت انستيتيوت" في أبو ظبي بنسختها الثالثة هذا الأسبوع، أن المسألة الإيرانية ستهيمن على المداولات سيّما بعدما أوضح الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنه لن ينخرط في مواجهة عسكرية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية مهما استفزّته عبر تهديد أمن حلفائه لأن الخط الأحمر لديه هو سلامة القوات الأميركية فقط، لا غير.
المفاجأة أتت من تركيا، ببعدٍ أميركي استراتيجي وببصمات "ترامبية"، حيث رفع دونالد ترامب إبطه أمام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فقرأ الأخير الرسالة بأنها مباركة له لغزوه سوريا لملاحقة الكرد هناك بذريعة استهداف "إرهابيي وحدات حماية الشعب وداعش" وإقامة "منطقة آمنة" في شمال شرقي سوريا "تسمح بعودة اللاجئين الى بلدهم"، حسب مزاعمه. أردوغان لمس استعداداً روسيّاً وأوروبيّاً لرفع الإبط أيضاً، وليس فقط أميركيّاً. قرّر خوض مغامرته السورية مباشرة عقب إعلان ترامب سحب قواتٍ أميركية من سوريا. كان على يقين ان الرئيسين الأميركي والروسي أعطياه – أردوغان – الضوء الأصفر مرفقاً بدعوته الى تلطيف غزوه شرط أن لا يعبر الخطوط الحمر. لكن رجب طيب أردوغان لا يفهم لغة الضوء الأصفر لأن شخصيته تحسم دائماً بين الضوء الأخضر والضوء الأحمر. لذلك فسّر المواقف الأميركية والروسية بأنها واشنطن وموسكو لن تقفا في وجه عملياته العسكرية في سوريا، وقرأ المواقف الأوروبية بأنها سترحّب بمشاريعه لإقامة "المنطقة الآمنة" لأن الأولويّة الأوروبية هي صدّ الباب في وجه اللاجئين السوريين.&
أردوغان قدّم عمليّاً للأوروبيين أفضل الخيارات لأنه وعد بإعادة حوالى 4 ملايين سوري من تركيا الى سوريا بعدما كان لجأ الى الابتزاز والتهديد بدفعهم الى الديار الأوروبية ما لم ترضخ الدول الأوروبية لطلباته.
الإدانات الأوروبية التي تحاول التغطية على حقيقة المواقف الأوروبية، والالتفاف الأميركي الواضح على الوعود التقليدية للكرد في سوريا، والابتسامة الضمنيّة لروسيا بالرغم من القلق من وطأة المغامرة التركية على مشروع روسيا في سوريا، كلها توحي لرجب طيب أردوغان ان مغامرته سَلِسَة وانه في خير لأن المؤسّسة العسكرية التركية وراءه وتدعمه كليّاً في هذا المسعى. السؤال هو: هل كل هذا يشير الى قرارات استراتيجيّة لكل الدول المعنيّة خلاصتها أنه من غير المسموح إحداث تغيير جذري في خريطة الشرق الأوسط السياسيّة والعرقية والأمنيّة، وبالتالي ليس من المسموح للأكراد أن يفكّروا في كردستان عراقية وسوريّة وإيرانيّة وتركيّة؟ أم ان الرئيس التركي الذي لا يعرف الخطوط الحمر سيتورّط وسيورّط غيره لدرجة الاضطرار الى هجره وبما يتطوّر الى حفرةٍ يوقع نفسه فيها في المستنقع السوري؟ ثم هل تصرّف دونالد ترامب في إعلانه سحب القوات الأميركية السورية بوعي تام لانعكاسات هذا القرار على المشاريع الإقليمية لكل من تركيا وإيران ليس من جهة الكرد فقط وإنما من ناحية مصير الممر أو الهلال الشيعي الفارسي الذي تخطط له طهران تنفيذاً لطموحاتها الإقليمية. ومصير رعاية أردوغان لمشروع "الإخوان المسلمين" تنفيذاً لحلمه إحياء الإمبراطورية العثمانية؟ أم أنه ارتجل القرار لأسبابه الانتخابية العابرة وليس لأسباب استراتيجية؟
هذه الأسئلة مصيريّة للمنطقة العربية التي تقع بين الحلمين والمشروعين الفارسي الشيعي، والعثماني السنّي الذي يحلم بهما كل من مرشد الجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي ورئيس تركيا رجب طيب أردوغان. كلاهما توسّعي وكلاهما يؤرق القيادات العربية التي تتخبّط في انقساماتها التقليدية حيناً وفي تنوّع صحي لمشاريعها المستقبلية. ثم هناك المشروع الإسرائيلي الذي وحّد العرب في إدانتهم له عبر العقود دون أن يتمكنوا من قطع مسيرته التوسعيّة.
غاية مؤسسة "بيروت انستيتيوت" الفكريّة، التي لي شرف تأسيسها وترؤسِّها، هي ان تتطرّق الى هواجس وأحلام وتطلّعات المنطقة العربية وعلاقاتها مع العالم، لذلك عندما تجتمع 250 شخصية عالمية وعربية في أبو ظبي هذين اليومين بتاريخ 13 و14 تشرين الأول (أوكتوبر)، لن يتمحور النقاش حول حدث غزو تركيا لسوريا، أو حول استدراج "الحرس الثوري" الإيراني لضربة عسكرية أميركيّة كدرع حماية من انتفاضةٍ داخلية تسبب اسقاط النظام. ان ما ستدقق فيه قمة "بيروت انستيتيوت" في أبو ظبي بنسختها الثالثة هو فعلاً وتماماً ما يتضمنه عنوانها. عقد العشرينيات: ماذا نتوقع؟ كيف نستعدّ؟
كمثال، ستبحث القمة مستقبل الخليج العربي بين التصعيد السياسي والأمن البحري من منطلق هل التحوّل مستدام وسط الاضطرابات، وهل يمكن تنفيذ خطط الإصلاح الطموحة مع بقاء منطقة الخليج على حافة الهاوية؟ بكلام آخر، هل يمكن أن تتعايش الرؤى البعيدة المدى للمنطقة العربية مع الصراعات والمنافسات ووسط مشاريع إيرانية وتركية وإسرائيلية، أم أن الصدام لا مفر منه؟ هذه الأسئلة ليست تمارين في فن الخطابة وإنما في صلب ضرورة الإجابة البراغماتية والرؤيويّة على تساؤلات وأسئلة مصيريّة للمنطقة العربية وتموضعها إقليمياً ودولياً.
ثم هناك المسألة الأميركية. أي هناك موضوع الثقة والخيبة في العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية عبر مختلف الإدارات والعقود. لا مناص من التحدّث عمّا تريده الولايات المتحدة في المنطقة العربية بالذات على ضوء تقلّبات سياساتها المرحليّة والدائمة. هل العطب في النظرة العربية الى النوعيّة في العلاقة العربية – الأميركية، بمعنى، هل تدفن قيادات الدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة عبر السنين الرؤوس في الرمال طوعاً لأن لا خيار آخر أمامها؟ أو أنها حسبت حسابات "الخيانة" الأميركية ووجدت نفسها في وضع أكثر أمناً، بغض النظر؟ أو انها فعلاً راهنت على الوفاء الأميركي التلقائي فيما الولايات المتحدة أوضحت دوماً أنه وفاءها هو قطعاً للمصلحة الأميركية وان اتهامها بالخيانة ليس سوى قصر نظر.
ولأن لكل رئيس أميركي بصماته المميّزة في صنع السياسات الخارجية تتخذ شخصية دونالد ترامب – الذي يواجه حالياً مساعي عزله عن الرئاسة – بُعداً خرافياً لأنها شخصية غير اعتيادية مثيرة للمشاعر والقلق. ومن هنا تتناول إحدى الجلسات في القمة سؤالاً له أبعاده إقليمياً وعالمياً وهو: هل تقود أميركا بحزم في هذه الحقبة من تاريخها أو انها تفوّض القيادة الى "متعهّدين" اقليميين لأنها فعلاً غير مهتمّة بهذه المنطقة سوى من ناحية بيع معدّات الأمن والأسلحة التقليديّة، لا اهتمام استراتيجي لها بالمنطقة العربية؟ وما هو تأثير تناقضات السياسة الخارجية الأميركية في تغيير ديناميات النزاعات الإقليمية؟
روسيا أيضاً تتصدّر أولويات التبصّر في مستقبل المنطقة العربية على ضوء أدوارها العلنيّة أو الخفيّة من سوريا الى ليبيا، ولذلك تتناول قمة "بيروت انستيتيوت" وطأة العلاقات الأميركية – الروسية على موازين القوى الإقليمية بين الدول العربية وإيران وسوريا وتركيا. كما تتناول اقتصاديات الجغرافيا - السياسية في الشرق الأوسط بالذات في خطط الصين وروسيا في بلدان ما بعد النزاعات مثل سوريا واليمن والعراق والبلدان التي تمرّ في مرحلة انتقالية مثل الجزائر وليبيا والسودان. ولأن البنية التحتية البشرية تدخل دوماً خانة النسيان والاستخفاف بالرغم من أهميتها الفائقة، تطرح إحدى الجلسات ضرورة تحديد وتعريف الجهات المسؤولة عن إعادة بناء البنية التحتية البشرية في هذه المنطقة العربية، ضحيّة البؤس الاقتصادي والنزاعات السياسية.
لا تكتفي قمة "بيروت انستيتيوت" في أبو ظبي بالبحث في الخطاب الأمني ودوره في إحلال السلام أو اندلاع الحروب، بل انها تتطرّق بعمق الى مدى جهوزية المنطقة العربية لمواكبة التقدّم التكنولوجي المتسارع لا سيّما في ظل الخروقات الأمنية الإلكترونية.
ولأن عنوان القمة هو ماذا نتوقع وكيف نستعدّ لعقد العشرينيات، يأخذ موضوع الابتكار التكنولوجي المرتقب حيّزاً مهماً من المنافسات. وتتنوّع مواضيع القمة لتشمل مقاربة أسس الانتقال نحو تطبيق مبدأ الاقتصاد الدائري وتعزيز موقع المنطقة العربية على الخارطة العالمية لناحية الإبتكار والإبداع سواء في عالم التصميم، عالم الأزياء، أو في مجال الهندسة المعمارية. وتبحث في سُبل دعم الموهوبين والمبتكرين وبناء مجتمع متمكّن رقميّاً للحد من ضياع الفرص الاقتصادية الحيويّة.
ولأن الأحاديث السياسية لها عدوى الزكام سيما على ضوء تطوّرات عسكرية على نسق الغزو التركي لسوريا، واضح أن تجمّع حوالى 250 شخصية عالمية في أبو ظبي لقمّة "بيروت انستيتيوت" بنسختها الثالثة سيؤدّي الى البحث المعمّق في خلفيات وتداعيات المغامرة التركية ودلائل المباركة الضمنيّة لها من ناحية الولايات المتحدة وروسيا ودول أوروبية ضمن حدود.
فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يريد للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يدمّر مشروعه في سوريا، لذلك التنبيه والتذكير بالخطوط الحمر، أي حصر التوغّل التركي في الأراضي السورية بحوالى 22 كيلومتراً وليس بعمق 44 كيلومتراً كما يودّ أردوغان. بوتين في حاجة الآن الى عمليّة سياسيّة ناجحة في سوريا ولا يريد لأردوغان أن يحطّمها.
أحد المستفيدين من رفع الإبط الأميركي والروسي والأوروبي كإشارة مرور لأردوغان هو إيران التي لها مشاريعها الإقليمية في وعبر سوريا. وهذا ما أثار حيرة المراقبين الأميركيين لمسيرة السياسة الأميركية الخارجية في زمن الترامبية المتقلّبة. ثم هناك "داعش" التي ازدادت حظوظ انتعاشها نتيجة المغامرة التركية. أما الكرد فإنهم أمام امتحان آخر يذكّرهم بأن القرار الدولي الاستراتيجي لم يتغيّر لصالحهم رغم كل مساهماتهم في محاربة "داعش" وما تهيّأ لهم بأنه نقلة نوعية. فبناء الدولة الكردية الكبرى خط أحمر مهما تهيّأ لمن شاء أن ضوءاً أصفر برق في الأفق يوماً.
التعليقات