سنرى الأسبوع المقبل كيف سترّد طهران على الرسائل التي تلقّتها من نيويورك أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي كان عنوانها الرئيسي ان الولايات المتحدة والسعودية والإمارات وبقيّة الدول الخليجيّة العربية لا تريد الحرب، وإنما تريد عملية ديبلوماسية Process ترغّب إيران بتعديل السلوك منهجيّاً وتكافؤها بتعديل في العقوبات تصاعديّاً.

المعلومات التي نقلتها المصادر عن صنّاع القرار في طهران، أي "الحرس الثوري"، هي انهم يقرأون رسالة اللاحرب بأنها فرصة لإطلاق يدهم بحريّة في عمليات تستهدف المنشآت الحيوية في السعودية والإمارات. ففي تقييمهم، لن ترد الدولة المستهدفة التي اتخذت قرار عدم الانجرار الى الحرب، ولن ترّد الولايات المتحدة لأن رئيسها أوضح أن سياسته قائمة على تشديد العقوبات مقابل كل تصعيد إيراني، لا غير، ما لم يعبر "الحرس الثوري" الخط الأحمر لدى الرئيس دونالد ترامب وهو استهداف الجنود الأميركيين. ولن يفعل، أقلّه الآن. فكلفة عبور الخط الأحمر عالية، و"الحرس الثوري" يريد إظهار قوّته في وجه الدول الخليجية وليس ضعفه أمام الولايات المتحدة الأميركية.

لذلك، الأرجح أن يلجأ "الحرس الثوري" الى تصعيدٍ واستفزازٍ جديد، قالت المصادر انه قد يتعدى المملكة السعودية. وتابعت المصادر ان قادة "الحرس الثوري" يودّون استفزاز الرد على التصعيد لكنهم واثقون من أن لا أحد سيرّد عليهم بجدّية. فطالما الولايات المتحدة تمتنع عن استدراجها الى العمل العسكري، طالما تشعر القيادة الإيرانية ان في وسعها بناء سمعة الاستقواء بلا ثمن يُذكر.

قراءة القيادة الإيرانية لمواقف دونالد ترامب هي أنه يتملّص من مفاهيم تقليدية في العلاقة الأمنية بين الولايات المتحدة والدول الخليجية العربية. فلا هو ملتزم بعقيدة كارتر Carter Doctrine التي تكفّلت بحماية أميركية لأمن الدول الخليجية العربية والتي أطلقها الرئيس الأسبق جيمي كارتر. ولا هو متأهّب للدفاع عن دولة حليفة أمام اعتداء جارة عليها كما فعل الرئيس الأسبق جورج بوش الأب عندما هبَّ للدفاع عن الكويت أمام اعتداء الرئيس العراقي حينذاك صدّام حسين. وفي رأي طهران، ان مواقف دونالد ترامب تفضح الضعف البنّيوي في العلاقة الأمنية بين الولايات المتحدة والسعودية بشكل خاص. وبالتالي لن يدخل هذا الرئيس حرباً مع إيران دفاعاً عن حلفاء واشنطن من الدول الخليجية العربية، ولن يتم إنشاء "ناتو عربي" أي حلف عسكري بين الولايات المتحدة ودول عربية.

صحيح ان الحلف شيء والتحالف شيء آخر. وصحيح ان دونالد ترامب أوضح أنه لا يريد الحرب ولن يُستدّرج الى المواجهة العسكرية. إنما الصحيح أيضاً هو ان سلاح العقوبات يبقى قاعدة أساسية في استراتيجية إدارة ترامب، وهو سلاح أثبت جبروّته. سياسة الخنق الاقتصادي لم تؤدِ الى لجم "الحرس الثوري"، بل لعلّها أضرمت فيه نار الانتقام ونزّعة التهوّر الاستراتيجي. لكن تماسك استراتيجية شدّ الخناق ستفرض على طهران اما تعديل نهجها بما هو في المصلحة العليا لإيران وشعبها، أو اعتماد الانتحار لأن الرهان على ديمومة رفض الإنجرار الى المواجهة العسكرية قد يكون رهاناً ركيكاً ومُكلِفاً. فدونالد ترامب رئيس المفاجآت.&

الهجمات على المنشآت النفطية التابعة لشركة "أرامكو" أدّت الى نتائج أتت عكس ما سعت وراءه الديبلوماسية الإيرانية بالذات مع الدول الأوروبية. فمنذ فترة طويلة وإيران تسعى وراء شق صفوف دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) آملة أن تتمكن دول الاتحاد الأوروبي من الالتفاف على العقوبات الأميركية وإيجاد آلية مالية تُمكّن إيران من بيع نفطها.

المواقف الأوروبية في أعقاب الهجمات على أرامكو سجّلت انتكاسة جدّية &للتنميات الإيرانية إذ صدر بيان عن الثلاثي الأوروبي، فرنسا وبريطانيا والمانيا، أكد على "ان إيران تتحمّل مسؤولية هذه الهجمات" وحض طهران على "الإنخراط في حوار" وعلى "الإحجام عن خيار الإستفزاز والتصعيد". هذه الهجمات أسفرت عن موقف بريطاني انفصل عن إجماع أوروبي على التمسّك بالإتفاقية النووية مع إيران إذ قال رئيس الوزراء الجديد بوريس جونسون ان الوقت حان للتفاوض على اتفاقية نووية جديدة داعماً موقف دونالد ترامب في هذا الإطار. إضافة، أسفرت الهجمات عن عقوبات أميركية مالية على البنك المركزي في إيران وما يتعدّاه - الأمر الذي يصعّب جداً تنفيذ أية رغبة أوروبية بالالتفاف على العقوبات عبر آلية مالية لأن البنوك الأوروبية لن تغامر بعقوبات أميركية. وعليه، أطلق "الحرس الثوري" النار على قدميّه عندما أقرّ رفع سقف التصعيد ليطال المنشآت النفطية. وسيطلق جولة نيران أخرى على قدميه، إذا نفّذ ما في ذهنه وثابر في هجمات كبرى ونوعية مثل شن هجوم على المنشآت النفطية السعودية.

ما زال هناك في طهران مَن يستثمر في قدرة الأوروبيين على التأثير في الموقف الأميركي لتخفيف العقوبات هلعاً من التصعيد الإيراني. هناك في طهران من يعتقد ان أخذ الأمور الى حافة المواجهة العسكرية سيفرض على دونالد ترامب التراجع والإنصياع. ما يحدث هو العكس. فلقد ضربت طهران على نفسها العزل وظهرت أمام شركائها الروس والصينيين وأصدقائها الأوروبيين دولة طائشة عندما قامت أو مكّنت القيام بعمليات ضد المنشآت النفطية. وحتى في نظر الإعلام الأميركي الذي يدعم إيران كأمر واقع نتيجة كرهه لكل من دونالد ترامب وللسعودية، فإنه وجد نفسه أقل تضامناً أو تفهّماً هذه المرة. وفي نهاية المطاف يستفيد دونالد ترامب من الظهور بأنه الرافض للاستدراج الى العمل العسكري طالما سياسة "الضغط الأقصى" تلبي الحاجة.

سيكون مفيداً جداً للقادة في إيران الاستفادة من فسحة ضبط النفس لدى الولايات المتحدة وتجنّب الرد على التصعيد الإيراني بإجراءات عسكرية. هذا ليس جُبناً وإنما هو لربما خبثاً ليس من مصلحة إيران الاستخفاف به. فكل تصعيد سيلاقي المزيد من العقوبات الخانقة وسيُقرّب الأوروبيين من الأميركيين ويُحرج الروس والصينيين.

واقعياً وبراغماتياً، على القيادة الإيرانية أن تقرّ وتعترف أمام شعبها ان الكلام عن ديمومة الاتفاقية النووية هو مجرد هراء، وان الانقسام حدث في الصفوف الأوروبية نحو الاتفاقية، وان لا مناص من التفاوض على اتفاقية جديدة مع دونالد ترامب تعدّل الخلل في اتفاقية باراك أوباما وأوروبا مع إيران.

على القيادة الإيرانية أن تصارح قاعدتها الشعبية بأن كل الجهود والمبادرات الأوروبية فاشلة قبل ولادتها وان لا مناص من مفاوضات جديدة. هذه المفاوضات لا يمكن اجراءها في ظل الشروط الإيرانية المصرّة على رفع العقوبات قبل الجلوس الى طاولة المفاوضات. لذلك لا بد من تنقيح الطروحات الإيرانية إذا كانت طهران حقاً جاهزة لإجراء الحوار والمفاوضات وتريد فعلاً تجنّب اما الحرب المدمّرة التي تستدعيها أو الانفجار الداخلي الذي تخشاه.

وهذا يعيدنا الى منطق النظام الذي وُلِد في طهران قبل 40 سنة وساهم في حروب إقليمية وطائفية ومذهبية والذي يتطلّب اليوم إعادة النظر والإصلاح. الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي الدولة الوحيدة التي تطالب العالم أن يبارك إنشاءها وتمويلها وتدريبها وتسليحها الجيوش غير النظامية التابعة لها في دول سيادية، مثل لبنان والعراق واليمن وسوريا، وتعتبر ذلك حقاً شرعيّاً تطالب العالم باحترامه.

إذا كان هناك من عمل ديبلوماسي جماعي يقع بين خيار الحرب وخيار التمسّك بالإتفاقية النووية المرفوضة، فإنه لن يكون عملاً جدّياً ما لم تواجه الأسرة الدولية وبالذات الدول الأوروبية هذا الخلل الفظيع في منطق نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتطالب فعلاً بتعديل وإصلاح منطق النظام أقلّه بإسم احترام مبدأ سيادة الدول الذي تقرّه الأمم المتحدة. فكفى غض النظر بإسم الواقعية – السياسية، أو بذريعة "فات الأوان". هذه فرصة لتفادي الحروب الانتحارية المدمّرة. ولا عيب أبداً في الإصلاح.

القرار عائد الى القيادة في طهران كما الى الشعب في إيران – قرار الحرب أو قرار التعديل والإصلاح. المؤشرات الآتية من قيادة "الحرس الثوري" لا تُطمئن لأن التعديل والإصلاح يشكّلان تهديداً وجودياً لها ولمنطقها. لذلك تبقى الخشية، كل الخشية، من أن يكون التصعيد العسكري – في رأي القيادة الإيرانية المتمثلة في مرشد الجمهورية و"الحرس الثوري" – الوسيلة الوحيدة لانقاذ النظام من الإصلاح ومن الإنهيار.