رجل كبير في السن يحافظ على الصلوات الخمس في المسجد مع السنن الرواتب، شاب كثير الصيام وقراءة القرآن.

راهب اختار الانقطاع عن العالم في أحد الأديرة، ترك الزواج وجميع ملذات العالم، فتاة تحافظ على قراءة الكتاب المقدس والتناول وسر الاعتراف. هندوسي يجد لذة عندما ينحني أمام تمثال الإله براهما.

هؤلاء جميعاً لم يروا الله رأي العين، ومع ذلك هم مستمرون في ممارسة طقوسهم الدينية وبإخلاص شديد، ولم يظهر الله لهم في رؤية أو يُحدِث معجزة لكي يوضِّح لهم من خلالها ما إذا كان دينهم صحيحاً أم لا، رغم الجهد العظيم والتعب الكبير الذي يبذلونه من خلال هذا الدين الذي يؤمنون به. يمكننا القول بأن هذا هو الدليل الوحيد على صحة جميع الأديان ما دام أن المقصود هو الله، والمقصود بصحتها أي بالنسبة لأتباعها ومعتنقيها.

الله ليس بظالم، حاشاه أن يكون كذلك، الله يحب الإنسان حتى لو كان ملحداً، لأن هذا الإنسان هو نفخة من روحه، هو مثاله وصورته على هذهِ الأرض التي استخلفه عليها.

يجب أن نُغيِّر الكثير من الصور المغلوطة عن الله، يجب أن نكون إنسانيين قبل كل شيء، يجب أن نلتمس الأعذار للآخر، يجب أن نقبله كما هو.

لايوجد عند الله دين صحيح وآخر باطل، هذا المفهوم يقف خلف كل فكر متطرف، فعندما يعتقد أحدهم أن دينه هو الصحيح وما سواه باطل فسيترتب على ذلك العداء والكراهية، وهذا شعار إبليس(أنا خيرٌ منه)، من هنا أجدني أتفق مع تعريف د.مراد وهبة للعلمانية بأنها "التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق"، لذا كانت العلمانية هي النموذج السياسي الاجتماعي الأصلح للبشرية، لأنها استطاعت إيقاف الدماء وإنهاء كل صراع ديني طائفي في تلك المجتمعات التي تبنَّتها، فمن خلال العلمانية يمكن تفكيك الأصوليات المُتطرِّفة والتي هي في مجملها شر مُطلق.

وهناك من يكرر العبارة الشائعة (الإسلام صالح لكل زمان ومكان)، وهذهِ العبارة صحيحة، حيث أنك تستطيع أن تصلي وتصوم رمضان وتحج بيت الله الحرام الآن وبعد مئة سنة، لكن مسألة أن يكون الإسلام أو المسيحية أو أي دين آخر نظاماً سياسياً ودستوراً للدولة فهذا جهل بمعنى الدين ومقاصده.
وما حدث في التاريخ الإسلامي في عصر النبوة وما بعده

من ممارسات دينية سياسية من قِبل الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة (كإقامة حد الردة، منع بناء دور للعبادة للأديان الأخرى...إلخ)، يُعد فترة وحالة استثنائية، حيث نجد أن العرب كانوا حديثي عهد بالإسلام والمدنية، فكان الرسول بمثابة الحاكم الديني والمدني.

وعندما نتأمّل في قوله عليه السلام للصحابة الذين أرادوا
تقليده في وصاله للصوم:
(إني لستُ مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني).

يُستفاد من هذا: أن نهيه للصحابة عن تقليده في أمور دينية، يقودنا من باب أولى إلى عدم تقليده في حكمه الديني السياسي (بالنسبة له عليه الصلاة والسلام لا يُعتبر عهده فترة حكم ديني سياسي، وإنما هو رسول ونبي كريم أُرسِل رحمة للعالمين كما وصفه الله في كتابه الكريم).

وقد يتساءل أحدهم: ما الحاجة للعلمانية طالما أن الدين شامل وكامل(كما يؤمن بهذا أتباع كل الأديان)؟

الجواب: كل الأديان تحتوي على نصوص يمكنها أن تُشرِّع لما يضر أو ينفع، يُفرِّق أو يجمع، من هنا برزت الحاجة للعلمانية والتي من خلالها يكون للدولة دستور يقوم بإعداد نخبة من المتخصصين.

وعندما يصبح الدين دستوراً فإنه حينئذ يكون ممارسة سياسية تطبيقية وبالتالي يتم توظيف الدين لتحقيق مصالح سياسية ودنيوية وهو الأمر الذي يُعد إساءة لقدسية الدين. لذا يجب أن يبقى الدين ناحية وجدانية تخص كل إنسان، وهوية ثقافية تخص كل مجتمع.