مما لا شك فيه أن صادق جلال العظم انتبه مبكرا للإشكاليات الكبرى للفكر والوجود في المشرق. ولم تمنعه ماركسيته، من الانكباب على الفكر التقليدي، وتفكيك مسلماته، ومن إيلاء الرأسمال الثقافي والرمزي أهمية تكاد تضارع الأهمية المخصصة ماركسيا للرأسمال المادي.
ولئن تمكن من تعيين موارد الاعتلال، فإنه لم يتقدم كثيرا في التشخيص والتفكيك ولم يقدم دراسات موثقة ومعمقة ومدللة وتفصيلية عن الفكر التقليدي المهيمن.

حدود السجال واستراتيجية التأسيس:
طغى الطابع السجالي الجدالي على دراسات صادق جلال العظم. وفيما يمنح السجال العالي والجدال الحاد،قوة جذب كبرى للنص ،فإنه يفقره نظريا ،ويحرمه من الإيغال في جذور وحيثيات الإشكاليات المطروحة للنظر. لا يتسع السجال أو الحجاج، لإنعام النظر في الحجج أو الأدلة أو لإعادة صياغة الإشكاليات أو تعديلها، أو لاجتراح مداخل نظرية مستحدثة بقدر ما يروم دحض وتفنيد أدلة الآخر والكشف عن افتقارها إلى التماسك والمتانة والمطابقة.
يضمن السجال والحجاج للنص مقروئية مؤكدة في العاجل، وقدرة عالية على الجذب والإقناع أحيانا؛ إلا أنهما لا يساعدان مطلقا، على بناء معرفة معمقة وموثقة بالإشكاليات النظرية والمعرفية المطروحة.
تنقص جاذبية النص السجالي أو الحجاجي تدريجيا إلى درجة الخفوت. فالقارئ القادم من سياق تاريخي أو معرفي أو سياسي ،مختلف عن سياق الكتابة و التداول والسجال ، لا يعود إلى النصوص القديمة نسبيا ،إلا بحثا عن بناء نظري متقن ،أو صياغة إشكالية قوية ، أو مناهج إجرائية ذات قدرة تفسيرية أو تأويلية عالية .يصير النص السجالي ،تدريجيا ،وثيقة للسبر والقراءة ،لا نصا حيا للمحاورة والتأويل والاستثمار النظري.
يتناسى الناقد المجادل -المساجل في غمرة تفنيده لحجج واستراتيجية الخصم، أن الإشكال نظري أو فكري، ولا يرتبط باختيارات المثقفين في سياقات محددة، معرفيا وإيديولوجيا وسياسيا.
يكتفي المساجل عادة بالاعتراض والتخطئة والتصويب والرد والدحض؛ والحال أن السياق الثقافي –الحضاري الحديث يفرض البناء المعرفي والتأسيس النظري لحقول وأرضيات معرفية لصيقة بالمتخيل واللاوعي الجمعي والموروث الأنثروبولوجي وبنى المقدس وآليات إنتاج الفكر والوعي التقليديين.
و أيا كانت جدارة الحجاج، فإنه قليل العائد النظري والفكري، ولا يساعد على الإحاطة بجذور وحيثيات ودلالات الإشكاليات التراثية ، وآليات المتخيل الجمعي، وكيفية تشكل المخزون الفكري ،و إواليات تفاعل النظم المعرفية المختلفة. مما يفرض التموضع في المساحات المشتركة بين الهرمينوطيقا والنقد الأدبي والأنثروبولوجيا وتاريخ الأديان والتاريخ، وإعادة بناء الإشكاليات والمفاهيم والآليات، وقراءة النصوص في ضوء الممارسات والسلوكيات والاستجابات الجماعية. إن المعرفة بالرأسمال الرمزي وآليات استثماره ومداورته في الراهن الثقافي –السياسي، هي في أحسن الافتراضات، برسم التأسيس وإعادة البناء. ولذلك فلا يمكن استدراك التأخر الثقافي، باصطناع مناظرات أو مجادلات أو مساجلات غير منتجة، بل بترسيخ استراتيجية التأسيس المعرفي والنظري.
يعلن صادق جلال العظم صراحة عن اندراج كتاباته النقدية في سياق النقاش الفكري السجالي كما هو متداول في تاريخ الفكر العربي –الإسلامي، وفي تاريخ الثقافة الأوروبية الحديثة.
وقد أشار نقاده (أدونيس وأحمد برقاوي وجورج طرابيشي.) إلى ضآلة العائد المعرفي والنقدي لكتابته الحجاجية والسجالية.
(عندها ليس من الصعب أن يجد الناقد ما يشاء من النقص والنقض والجمل الداحضة واللغة الساخرة والأحكام العامة والنصوص المناقضة للنص المنقود الخ.غير أن هذه الطريقة إذا ما تحولت إلى طريقة وحيدة في الكتابة لدى شخص ما ، أو صارت مهنة ، فإنها ستوقع هذا الشخص في مآزق كثيرة لا سبيل إلى الإفلات منها ،أقلها الفقر الذي يطبع حصيلة جهده ،وغياب النسق النظري العام الذي يميزه ، وفقدان القضية التي تشكل أساسا للهم الذي يقف وراء الكتابة .)1-
ولئن نوه جورج طرابيشي بجرأته الفكرية، وبقدرته على إخراج بعض القضايا الحارقة من حيز التقديس إلى حيز التفكير النقدي وتحويلها إلى قضايا نثرية، فإنه يقر بحدود المساجلة والاكتفاء بنقد النصوص الثوالث ونقد النقد ويعتبر محاولته في نقد نقد النقد كما تمثلت في " ما بعد ذهنية التحريم " مجرد محاولة تمهيدية.
(فهو يرقى بفن الجدال في الثقافة العربية المعاصرة إلى قمة جديدة، ولكن بدون أن يجاوز مع ذلك هضبة السجال.) 2-

دقة التعيين وقصور التشخيص :
لقد جادل صادق جلال العظم وعارض النصوص الثوالث أي التصورات والمعالجات المعتادة للفكر والتراث الدينيين، دون أن يقدم أية معالجة معمقة لظاهرة من ظواهر الفكر أو التاريخ الدينيين. باستثناء دراسة يتيمة ومقتضبة (مأساة إبليس في "نقد الفكر الديني ")، لم يخصص أية دراسة معمقة ومستفيضة للنصوص الثواني؛ واكتفى في الغالب بمساجلة نصوص غير مرجعية وغير تأسيسية.
هل يمكن استكشاف المخبوء والمسكوت عنه والمضمر في الخطابات المرتبطة بالفكر التراثي والاستشراق، بالاعتماد على السجال والحجاج؟ وهل يمكن إضاءة مجاهل الظاهرة الدينية والتاريخ الثقافي العربي-الإسلامي، بالتعويل الحصري على قراءة النصوص الثوالث؟
لا يمكن الاكتفاء بالنصوص الثوالث ولا بالنصوص الثواني في أية معالجة جادة للفكر التراثي في الشرق الأوسط.
إن الأسئلة والإشكاليات المثارة من الدقة والعواصة بحيث لا تكفي المحاورة أو المساجلة أو المجادلة لاستجلاء معالمها أو سبر أغوارها.
يكتفي صادق جلال العظم بملامسات أولية وإشارات خاطفة وانتقادات عجلى ،فيما يتطلب الموقف النقدي ،معالجات أنثروبو-تاريخية أو أنثروبو-هيرمينوطيقية معمقة لكثير من مظاهر المتخيل الجماعي والفكر التراثي.
(ولكن أحدا من هؤلاء المنددين والمناشدين لم يقم بنقد الذهنية الدينية الغيبية التي يرفضها، على أساس من المراجعة العقلانية العلمية المباشرة لنماذج حية وملموسة من إنتاجها ومزاعمها وتفسيراتها للأحداث.) 3-
يقتضي النقد العلمي لنماذج لاهوتية –غيبية ،تأسيس معارف وبناء مناهج ومقاربات والنهل الحاذق من إنتاجات العلوم الاجتماعية والعكوف على دراسات سوسيولوجية و أنثروبولوجية معمقة ومستفيضة.و باستثناء دراسات علي الوردي( دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) و سيد عويس ( " من ملامح المجتمع المصري المعاصر :ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الامام الشافعي " و"عطاء المعدمين :نظرة القادة الثقافيين المصريين المعاصرين نحو ظاهرة الموت ونحو الموتى "و " هتاف الصامتين :ظاهرة الكتابة على هياكل المركبات في المجتمع المصري المعاصر " ...الخ)، عرف المشهد الثقافي في الستينيات غياب دراسات موثقة عن المتخيل والموروث الثقافي والرمزي وتأثيرهما في السلوك الجماعي .
فلو انخرط في المجهود البحثي المتخصص في معالجة الرأسمال الثقافي والمتخيل الجمعي ،وتعمق في دراسة آليات الثقافات التقليدية ، في الممانعة والتسويغ والتكييف والتسويغ والاجتياف وإعادة بناء اليقين التداولي بعد كل رجة أو خضة حضارية، لقدم توصيفا أكثر مطابقة وأكثر اتساقا مع الواقع الفكري ودينامياته ومخاضاته.
(بالنسبة لنا يبدو أن الموقف الديني القديم الممتلئ بالطمأنينة والتفاؤل في طريقه إلى انهيار تام، لأننا نمر، في طور نهضة مهمة، وبانقلاب علمي وثقافي شامل، وبتحويل صناعي واشتراكي جذري، لأننا تأثرنا إلى أبعد الحدود بأخطر كتابين صدرا في القرنين الأخيرين:" رأس المال" و " أصل الأنواع".)4-
لا يخلو تشخيص صادق جلال العظم وتقييمه للسياق الثقافي –الحضاري الحديث، من قلق وتوتر والتباس؛ ونرجع هذه الأعراض إلى ما يلي:
1-الاكتفاء بالدراسات الفكرية المجردة، وعدم التمرس بالدراسات والمناهج الأمبريقية أو المقاربات الأنثروبولوجية ؛
2-الاعتناء بسياقات التشابك بين الديني والثقافي والسياسي في سياقات ومفاصل سياسية- تاريخية محددة ( كما في دراسته عن" معجزة ظهور العذراء وتصفية آثار العدوان"و"التزييف في الفكر المسيحي الغربي المعاصر"و" ذهنية التحريم " )،دون التعمق في استقراء واستجلاء ورصد بنى وآليات المقدس والفكر التقليدي وإعادة انتاجهما في سياق التحول الثقافي –الحضاري منذ الستينيات ؛
3-غياب التشخيص القطاعي والمجالي والدراسات التركيبية المبنية على نتاج المونوغرافيات والدراسات التفصيلية.
فلئن انتبه إلى قوة الرمزي ومفاعيل التراث، فإنه لم يبوأ الموروث الثقافي مرتبة العامل الجوهري المفسر للوضعية الإشكالية لبدان الشرق، خلافا لأدونيس. فما كانت ماركسيته تقبل جوهرية الثقافي-الرمزي و أولويته بالقياس إلى العامل الاقتصادي أو السياسي في البلدان الطرفية.
(أزعم كذلك بأني حين تناولت الظاهرة الدينية في حياتنا بالمناقشة والنقد قمت بنمذجتها وتجريدها إلى هذا الحد أو ذاك –كأي باحث يستخدم أدوات العلم الحديث وطرائقه-وبعزلها مؤقتا عن الكل الذي هو جزء منه لأغراض عملية منهجية ولكني لم أحولها في أية لحظة من اللحظات إلى سبب جوهري أو رئيسي أو أول " يفسر لنا عالما معقدا كعالم الشرق".) 5-
أدرك صادق جلال العظم أهمية العامل الثقافي ودور التصورات الجماعية في تشكيل الوعي الجماعي، وضرورة تفكيك الوعي الثقافي والاجتماعي القائم، خلافا لكثير من الماركسيين القائلين بأولية الاقتصاد والوعي الطبقي وفك الارتباط بالمركز الرأسمالي. إلا أنه اكتفى، في الواقع، بتشخيص أولي لا يمكن من التعمق في معرفة البنى والمؤسسات والاشكاليات ورهانات الثقافة في عالم لم يحقق لا النهضة ولا الأنسة ولا التنوير ولا الثورة الصناعية.
كما يفرط في تقدير قوة التشكيلة المعرفية العلمية الحديثة وقدرتها على اختراق التشكيلات المعرفية التراثية في المركز والأطراف علما أنه نقد لاهوتية وصوفية مارتن هايدغر وفيتجنشتاين والفينومينولوجيا ومثالية ولا تاريخية فكر التوسير وإبستيميات فوكو في " دفاعا عن المادية والتاريخ ".
(يمكننا التعبير عن الحقيقة ذاتها بالقول إن العقل العلمي –الكمي –الاستكشافي –المنهجي –التطبيقي –المنتظم حل تماما محل العقل الغيبي –الكيفي- التأملي –الإسكولائي –الصوري –الاعتذاري في كل ما له علاقة حاسمة وحيوية بالنسبة للتعامل مع العالم عموما ومع إدارة عملية إنتاج الثروة الاجتماعية تحديدا.) 6-
وفيما كان من الضروري ،في سياق صعود التيارات التقدمية إلى واجهة المشهد السياسي –الثقافي منذ الخمسينيات ،إجراء تشخيص أمبريقي للوضع الثقافي ،و تجاوز التعميمات والمصادرات والانطباعات الذاتية ،حول مفاعيل الثقافة التقليدية ونفاذية الثقافة الحديثة ،اكتفى صادق جلال العظم ،بالدعوة إلى التثوير الذهني والمراهنة على قدرة التشكيلة المعرفية العلمية الحديثة على استئصال التشكيلات المعرفية التراثية .علما أن ما يسري على الإنتاج والاقتصاد ،لا يسري بالضرورة على عالم الثقافة والمعرفة والرأسمال الرمزي .ويكفي التدبر في الاستجابات الفكرية لتحديات الحداثة والتعمق في دراسة كتابات ومسارات[ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وطنطاوي جوهري و أمين الخولي وسعيد النورسي ومحمد باقر الصدر ومحمود محمد طه ] للتأكد من قدرة التشكيلات المعرفية التراثية على اجتياف وتلوين وتحوير وتكييف كثير من عناصر الحداثة الفكرية.
الواقع أن صادق جلال العظم رام التثوير في غياب التنوير، في طوره الأول، ورام التنوير بعد تعذر التثوير غب اندحار التقدمية العربية (1967) والاشتراكية –الماركسية (1989)،إلا أنه اختار نهج النقد والسجال والجدال وتناول القضايا الفكرية المثيرة دوليا وإقليميا كما فعل في " ذهنية التحريم " و"ما بعد ذهنية التحريم"، دون أن يسهم في وضع مدامك معرفة عالمة وعلمية بالمقدس والموروث الشعبي والثقافات السامية- المتوسطية العالمة.
كان من الممكن التعمق في تدبر تجربة النهضة و رصد إوالياتها وآلياتها في التفاعل والتجاوب والاستجابة وتقييم رصيدها المعرفي وصياغة سوسيولوجيا للمثقفين التنويريين وصيغ اشتباكهم، الفكري والسياسي والثقافي (أحمد فارس الشدياق و عبد الحميد الزهراوي و وشبلي شميل وعلي عبد الرازق وطه حسين و منصور فهمي ومحمد حسين هيكل) ، مع مقررات الواقع السوسيو-ثقافي في أزمنتهم.
(أنا أجد نفسي الآن، مع آخرين كثيرين، في موقع الدفاع عن عصر النهضة وإنجازات عصر النهضة وأفكار التنوير .كما أعتقد أن قيم التنوير جديرة بأن يدافع عنها، ويدافع عنها بقوة، ولا سيما أن هناك خطأ آخر ارتكبه اليسار يتمثل في إهماله القيم المرتبطة كلاسيكيا بالتنوير.) 7-
يرجع إهمال اليسار لقيم التنوير، في الحقيقة، إلى مقررات نظرية، بسطها العظم في محاوراته مع عفيف قيصر،لا إلى سوء تقدير الوضع المشخص كما يعتقد في حواره مع صقر أبي فخر. يتمثل خطأ اليسار في الواقع، في سوء التوطين وغياب تشخيص سوسيو –ثقافي دقيق للواقع الاجتماعي، وتغليب المسلمات والمصادرات النظرية المبلورة في سياق صناعي وتغييب خصائص السياق الثقافي الطرفي غير المصنع وغير المنخرط، عمقيا ،في تجارب التنوير والأنسنة والعلمنة.

نقاد تنويرية صادق جلال العظم:
وفيما اختار الماركسيون الأقحاح إما تلافي الإشكال التراثي جملة والغوص في قضايا اقتصادية –سياسية أو إيديولوجية (مهدي عامل وسمير أمين) أو تطويع التراث الكلامي أو الفلسفي أو التاريخي أو الصوفي والبحث عن سوابق أو ممهدات أو نظائر تراثية للمادية أو التاريخانية أو العقلانية (حسين مروة وطيب تزيني وهادي العلوي)، فإن صادق جلال العظم انتبه إلى قوة الرمزي والأسطوري واهتم بالاغتراب الديني.
وقد اعترض البعض على وضعانية وميكانيكية وتبسيطية معالجة صادق جلال العظم لبعض تجليات الفكر الديني، استنادا إلى خلفيات بنيوية أو تفيكيكية أو وجودية (علي حرب وتركي علي الربيعو ..).كما نظر بعض الماركسيين بعين مشككة وناقدة إلى نقده للاغتراب الديني، بدعوى أولية نقد الاغتراب الاقتصادي.
(لقد ساح صادق في الأرض. ومشى في الشوارع والأزقة ولبس شالا أحمر، لكن أحدا لم يره، فساءه ذلك.فقرر أن يصعد إلى السماء كي يصارعها. فامتطى سلما درجاته من خيوط العنكبوت.وهناك في السماء شاهده الجميع بين مستنكر لصراعه الدونكيشوتي وبين معجب بترسه وسيفه الخشبي.عندها استراح واطمأن إلى أنه وصل إلى غايته .لكن طيب الإقامة في السماء جعله يتخذ منها بيتا ،وما زال هناك مستعرضا عضلاته ،صارخا لا ،العذراء لم تظهر على قبة الكنيسة .ويأتيه الجواب :لا العذراء ظهرت ،وسنجعل من يوم ظهورها مناسبة.)8-
يخطئ صادق العظم في التشخيص وفي ترتيب الأولويات وتحديد الإشكاليات الجوهرية، حسب أحمد برقاوي؛ فقد استمرأ نقد السماء، فيما انشغل المفكرون بتفكيك الأيديولوجيات ونقد نمط الإنتاج الرأسمالي و الكولونيالي و الخراجي والأنتلجانسيا والدعوة للفكر التاريخي (عبد الله العروي و ياسين الحافظ وسمير أمين ومهدي عامل).
يعترض برقاوي إذن، على تنويرية صادق جلال العظم، وتشخيصه النقدي للوضع السوسيو-ثقافي منذ الستينيات.
لا ينتقد بولس نويا تنويرية العظم، بل رؤيته التبسيطية الوضعانية للظاهرة الدينية ؛ولذلك فهو منحصر في المستوى الأول لتجريد الدين من الأسطورية ،ولم يتمثل المستويات العميقة لتجريد الدين من الأسطورية ،في اعتباره ، كما جسدها كبار المتصوفة ( البسطامي والحلاج) وكما نظر لها كبار المفكرين لا سيما رودولف بولتمان و بول ريكور.
(إن صادق جلال العظم في تبسيطه هذا، رهين النزعة العلمية كما عاشها القرن التاسع عشر.وهو إذ يحاول أن يبني عليها نقده للدين، لا يتخطى ما سنسميه مع الأستاذ بول ريكور (Ricœur (المستوى الأول لتجريد الدين عن الأسطورية(démythologisation)، أي المستوى الأكثر سطحية لأنه يظل خارج الوقائع.).9-
يهتم الناقد في المستوى الثاني لتجريد الدين من الأسطورية –حسب بولس نويا-بالدلالات الوجودية لا بالمحتوى الموضوعي للتصورات. ولذلك لم يهتم صادق جلال العظم - حسب اللاهوتي اليسوعي -بفهم الأبعاد الوجودية والفلسفية للتصورات الدينية،كما لم يدرك أبعاد انحصار العلم في الأسباب والمسببات الطبيعية الفزيائية وعجزه عن الكشف عن الهموم الوجودية الجوهرية للكائن البشري.
*
من الواضح أن صادق جلال العظم، أدرك أهمية الرمزي والأسطوري والأبنية النظرية والمخزونات النفسية في توجيه وإدارة السلوك الفردي والجماعي، دون أن يؤكد أولية التشكيلة المعرفية ودورها المحدد، خلافا للبنيويين والتاريخانيين. وتأسيسا على هذا الاقتناع ،انخرط في تفكيك الفكر والظواهر والتوجهات اللاهوتية ،وتمسك بالجدال والمناظرة والسجال والنقاش الحاد مع مناصري القدامة الفكرية والقيمية ،و توغل في استثمار آليات الحجاج والسجال من أجل حلحلة الوضع الثقافي ؛إلا أنه لم يتمكن من تفادي وهاد المجادلة ،وعقم المساجلة ؛علما أن القضايا المثارة في مؤلفاته تستلزم التوافر على دراسات تمهيدية وتفصيلية ومرجعيات تركيبية ، لا يمكن بدونها تأسيس النظر وتعميق الرؤية وبناء المعرفة المنهجية –النسقية بالمتخيل الجماعي .ثمة فرق بين جدال مدعوم برصيد وثائقي ومعرفي ومنهجيات مستقرة( فولتير وديدرو ولسنغ واليسار الهيغيلي .. ) ، وجدال مفتقر إلى سند وثائقي ومصدري ومنهجي وآلي معتبر وناجع إجرائيا.
وعلاوة على قلة العائد النظري والمعرفي للسجال، فإنه لا يسهم حسب عبد الله العروي في تقوية النقاش والتقاليد الديمقراطية.
(كلها سجال [يقصد كتب ومقالات العظم].ما الفائدة؟ يقول إنها تنمي فينا تقاليد الديمقراطية. أشك في ذلك –هذا النوع من النقاش يظل حكرا على فئة المثقفين الأحرار وهم الآن في تراجع وتناقص.) 10-
فما جدوى سجال لا يسهم في تأسيس المعرفة النسقية، ولا في توسيع دائرة تداول الفكر الديمقراطي؟

الهوامش :
1-صادق جلال العظم، ما بعد ذهنية التحريم، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، نيقوسيا، قبرص،الطبعة الأول:1997،ص.353؛
2-جورج طرابيشي، هرطقات 2-عن العلمانية كإشكالية إسلامية –إسلامية، دار الساقي مع رابطة العقلانيين العرب، الطبعة الأولى 2008،ص.162.؛
3-صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، دار الطليعة، بيروت، الطبعة السادسة 1988،ص.7؛
4-صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، ص.14.؛
5-صادق جلال العظم، ما بعد ذهنية التحريم، ص.200.
6-صادق جلال العظم، ذهنية التحريم، المدى، دمشق، الطبعة الثانية 2004، ص.240؛
7-صقر أبو فخر، حوار مع صادق جلال العظم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية :2000، ص.56.؛
8-صادق جلال العظم، ما بعد ذهنية التحريم، ،ص.362؛
9-بولس نويا، تجريد الدين عن الأسطورية، (خواطر حول كتاب "نقد الفكر الديني")، مواقف، العدد 15، سنة 1971، ص.29؛
10-عبد الله العروي ، خواطر الصباح –حجرة في العنق –يوميات (1982-1999)،المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء –بيروت ، الطبعة الأولى 2005،ص.234.


أكادير –المغرب