مات سمير غانم، والرحيل عمومًا قرين الألم، فما بالك عندما يكون الراحل إنسانًا كان حضوره هو البهجة في أنقى صورها، الضحكة الخالية من كل تكلف أو تقعر؟ فقط الرغبة في جعل الحياة أفضل قليلًا، في تحويل مسار اليوم برسم بسمة على وجه كي ينسى صاحبه – ولو لثوان – همومه ومتاعبه؟

(1)

اعتدنا مؤخرًا الحزن على فراق مبدعين كبار حفر كلٌ منهم مكانه داخل قلوبنا مشهدًا مشهدًا، في أعوام تعيسة كُتب على بني جيلنا فيها أن يشاهد شجرة الذاكرة تتساقط ورقة تلو الأخرى. لكن للأمر وقع مختلف مع رحيل سمير غانم. لماذا؟ ربما لسمات فيه أو سمات فينا.

ربما لأنه كان أكبر من الحياة، حضوره الصاخب وما يثيره حوله من بهجة طفولية لا تنتهي كان سببًا للاعتقاد في أنه طفل أبدي، يشيخ جسده وتبقى روحه تقفز يمينًا ويسارًا، فتسخر من هذا وتدبر مقلبًا لذاك وتلقى نكتة تجعل كليهما ينفجر ضاحكًا من نفسه ومن العالم.

ربما لأن امتداد عمره ومسيرته الفنية جعلته حقيقة أزلية في ذاكرة ثلاثة أجيال على الأقل، شهدوا جميعًا حضوره وتأثيره ونجوميته، جعلونا نعتقد أنه تمكن بطريقة ما من مخادعة الزمن والحصول على استثناء بالبقاء للأبد. لا تنس هنا أن سمير وجورج والضيف عندما وقفوا ليغنوا مونولوجاتهم الشهيرة في "30 يوم في السجن"، فعلوا هذا عام 1966، أي قبل أكثر من 55 سنة كاملة، ظل سمير خلالها نجمًا فائق الشهرة والشعبية والنجاح. الرقم وحده كاف لتوضيح النقطة.

أو ربما لأن سمير غانم كان يحمل بالنسبة لنفوسنا قيمة أكبر بكثير من دور الكوميديان، ويُمثل دون أن يقصد ثقافة كاملة وطريقة للتعامل مع الحياة بتعاستها وتعقدها. هذا رجل لم تكن حياته أبدًا خالية من الآلام والمتاعب وفقدان أقرب الناس إليه بالموت أو المرض، لكن ذاكرتك لن تحمل له أي صورة لا يتجاهل فيها كل الجراح ليضحك ويسخر من الحياة والموت معًا. نعم، لو رجعنا بالذاكرة سنجد أن سمير غانم هو أكثر من ألقى نكاتًا عن الموت في تاريخ فننا المصري، يصيغها بطريقته الفريدة لدرجة تجعل مشاعرنا تشبه مشاعر منصور (يونس شلبي) بطل فيلم "4-2-4" وهو يرى رجلًا لا يعرفه يدخل ليعزيه في وفاة والدة قائلاً:

"أنا جاي أقدم التعازي.. C’est la vie.. You go.. You come.. You win.. الله عليه العوض"!

هذا بالتأكيد سطر حواري لم يُكتب في سيناريو، وارتجله فنان كانت صناعة مسرحيات وأفلام كاملة تقوم على قدرته على خلق الضحك فطريًا من أي تفصيلة، من شخصية أو قطعة ملابس أو طريقة حديث أو أي شيء يمكن تخيله. فنان لم يكن يُفكر وهو يقول تلك الجمل في أكثر من أثرها الضاحك على من يسمعها، لكن تراكم نكات مماثلة، وانسجامها الكامل مع شخص صاحبها ونمط حياته، خلق منها منهجًا سيظل سمورة رائده ورمزه الأبدي، منهج يقوم على التغافل، على إنكار وجود الموت والألم والسخرية من كل شيء، فإذا كانت الأقدار تعبث بنا فيرحل شاب موهوب كالضيف أحمد في وقت كانت موهبته فيه على وشك الانفجار بأفضل ما لديها، فأبسط حقوقنا أن نتظاهر بأن كل ذلك لم يحدث، وبقدرتنا على مواصلة الحياة بابتسامة ساخرة وتجاهل تام.

(2)

مع خبر رحيل سمير غانم الذي كان متوقعًا في الأيام الأخيرة، سارع الآلاف لإعادة سماع رسالته إلى الضيف أحمد. الأغنية أو الكلمات المُغناة التي كتبها الشاعر الاستثنائي عصام عبد الله ولحنها محمد هلال في مطلع الثمانينيات ليؤديها سمير مقدمًا تحية من عالم الأحياء إلى رفيق دربه الذي تركه في لحظة. سطور كُتبت من أربعة عقود وظلت معلقة في الهواء تنتظر خاتمة تُكمل معناها.

"بيني وبينك كل ما أفكر.. أدقق.. أمعن.. باشعر إني خلاص هاتجنن

بس مافيش من المكتوب بد..

وآهي أيام بتعدي يا ضيف.. وهنتقابل بلا تكليف..

ونقعد نضحك.. نضحك.. نضحك"

بالمقاييس الدرامية هذا زرع واضح ينتظر الحصاد، تفصيلة تُزرع في الفصل الأول للسيناريو كي تتحول في الفصل الثالث حدثًا دراميًا يمنح العمل معناه. قنبلة موقوتة طال أمدها لحسن حظنا كي نستمتع أكثر بالراوي قبل أن تكتمل نبؤته وتمر الأيام ليلقى الضيف.. بلا تكليف.

المدهش أن سمير غانم كان العدو الأكبر للفصل الثالث، فتراث الكوميديا المصرية تمنحنا شعورًا دائمًا بأن صناعها يخجلون من أنفسهم وإن لم يدركوا ذلك، فيحاولون في نهاية الفيلم أو المسرحية إضفاء معنى لا يملكه العمل عبر إلقاء خطبة أو عرض وعظة يظنون أنها تجعل عملهم أكثر قيمة، وكأن نشر البهجة ليس قيمة عظمى في حد ذاته. سمير غانم وقف وحده في وجه "الكوميديا الهادفة"، فكان الناجي الوحيد من لعنة الفصل الثالث، ملتزمًا بالإضحاك من "الجلدة للجلدة" دون رسائل أخلاقية أو وعظات بائسة.

وكأنه مجرد تلاعب آخر، تأجيل وتغافل جديد، لا فصول ثالثة على المسرح أو الشاشة، انتظارًا لاستكمال الحكاية بلقاء الضيف وجورج وسمير في السماء ليضحكوا معًا من جديد.

(3)

في واحد من أفضل مشاهد الكوميديا العبثية في تاريخ السينما المصرية، وفي فيلم كوميديا رومانسية محدود القيمة اسمه "البنات عايزة ايه؟"، يطارد زوج غاضب (أحمد عدوية) البطل الذي يظن أنه عشيق زوجته (محمود عبد العزيز) فيحتمي الأخير بصديقه (سمير غانم)، مواجهة حاسمة تتم في الدقائق الخمس الأخيرة للفيلم، أي الفصل الثالث مجددًا. مواجهة يجب أن تنتهي دراميًا بمأساة ينهيها سمير غانم فجأة بغناء مطلع أغنية عدوية الشهيرة "السح الدح امبو"، ليترك عدوية شخصية الزوج الغاضب ويعود لشخصيته الحقيقية فيُكمل الأغنية ويرقص الجميع، بل ويُخرج محمود عبد العزيز ورقة مالية من جيبه ليمنح "النُقطة" لمن كان يريد قتله قبل ثوان.

مشهد لا يستغرق ثوان يمكن من خلاله تلخيص قيمة سمير غانم في تاريخنا، كنغمة منفردة لا تشبه إلا نفسها، تعامل صاحبها مع الحياة بما تستحقه من عبثية ساخرة، فما نعيشه حقًا لا يستحق أن يؤخذ على محمل الجد، وكل شيء يمكن أن ينتهي إذا ما توقف المرء صائحًا "عم يا صاحب الجمال". ولا تأكيد على صحة موقف سمورة سوى أنه نفسه، وهو من ملأ الدنيا صخبًا لأكثر من نصف قرن فأبهج الملايين وتجاوز الموت مرات ومرات، رحل في النهاية وفي غضون أيام نتيجة لسلسة تداعيات بدأت بأن شخص في آخر العالم قرر شرب حساء الوطواط قبل عامين!