حظيت الزيارة المهمة التي قام بها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، مؤخراً، لتركيا ولقائه مع الرئيس رجب طيب أردوغان، باهتمام رسمي واعلامي اقليمي وعالمي بالغ يمكن التعرف عليه من خلال ردود الأفعال الإعلامية واسعة النطاق التي حظيت بها الزيارة. ولاشك أن الاهتمام الكبير الذي حظيت به الزيارة ارتبط بعاملين أساسيين أولهما أنها جاءت عقب نحو عشر سنوات من الخلافات والقطيعة السياسية بين الامارات وتركيا، لذا فإن الزيارة تطوي صفحة من التوتر بين ركيزتين اقتصاديتين وسياسيتين في الشرق الأوسط، والثانية ليست بعيدة عن الأولى وترتبط بالتطورات السلبية المتسارعة التي يشهدها الاقتصاد التركي، وتحديداً ما يتعلق بتراجع سعر الليرة، حيث تزامنت زيارة صاحب السمو ولي عهد أبوظبي مع تراجع قياسي للعملة التركية، مادفع الكثير من المحللين والخبراء للقول بأن الاتفاقات الموقعة في أنقرة تمثل طوق انقاذ للاقتصاد التركي.

المؤكد في الأمر أن توقيت الزيارة لم يكن مفاجئاً ولا مصادفة بالنظر إلى الترتيبات والاتصالات والزيارات التي سبقتها منذ شهر أغسطس الماضي، حين قام سمو الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان مستشار الأمن القومي بزيارة لتركيا التقى خلالها كذلك الرئيس أردوغان، وبعدها بأيام أجرى صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان والرئيس التركي اتصالاً هاتفياً يعكس حدوث اختراق نوعي في جدار الخلافات التي سيطرت على علاقات البلدين طيلة السنوات الماضية. وبالتالي فإن التزامن بين الزيارة وتراجع العملة التركية كان مفارقة أكسبت الزيارة بعداً إضافياً زادها أهمية ولفتاً لانتباه الدوائر السياسية الدولية.

الحقيقة أن أهمية زيارة سمو ولي عهد أبوظبي لتركيا قد انعكست في كم غزير من التحليلات والرؤى التي تتباين وفقاً لوجهات النظر والمواقف والانحيازات السياسية والأيديولوجية وغير ذلك، ولكنها في المجمل تؤكد أن الزيارة تفتح الباب أمام مرحلة جديدة ليس فقط في العلاقات التركية الاماراتية، ولكن في العلاقات التركية العربية بشكل عام، فلزيارة تعد التحرك العربي الدبلوماسي الأول لانهاء حقبة الخلاف التي خيمت على العلاقات بين أنقرة وعواصم صناعة القرار العربي مثل القاهرة والرياض وأبوظبي.

تساؤلات عدة تطرح على خلفية هذه الزيارة وفي مقدمتها: هل يعني لقاء صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة والرئيس التركي وماجرى خلاله من اتفاقات وتفاهمات طي صفحة الخلاف الاماراتي التركي بصورة نهائية؟ والجواب أن الشواهد تؤكد ذلك، وما يمكن تأكيده أن هناك توافق مشترك على إدارة هذا الخلاف والتوصل لتسويات ترضي الطرفين بشأن بعض الملفات، وقناعتي الذاتية أن الأطراف الاقليمية جميعها، قد أدركت أن استمرار الصراعات في الشرق الأوسط لن يكون في مصلحة طرف ما، فالكل خاسرون، وبالتالي فالأفضل هو بلورة مقاربات تضمن الحد الأدنى من مصالح كل طرف وفق صيغة لا غالب لا ومغلوب، وهذه هي أفضل صيغ العمل الدبلوماسي في العصر الحديث.

الحقيقة المؤكدة أن الأجواء التصالحية التي تعم منطقة الشرق الأوسط، والتي لعبت السياسة الخارجية الاماراتية دوراً قيادياً فيها، بما تمتلك من ديناميكية ومرونة وفاعلية وقدرة على الامساك بزمام المبادرة، تصب في مصلحة الجميع، وتستفيد منها دولة الامارات بشكل خاص ومباشر، والأمر في ذلك ليس طارئاً ولا عابراً على توجهات الدولة، وقد قدم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان تفسيراً لذلك في حفل تسلم سموه جائزة "رجل الدولة ـ الباحث" لدور سموه في نشر السلام والتسامح بالعالم، والتي يمنحها "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدني"، حيث قال "مكاسب السلام أكبر بكثير من الخسائر والإمارات تطمح إلى سلام أكبر من ذلك وهو النفع العام"، وأن السلام مع اسرائيل أو غيرها يعبر عن "رسالة ورثناها من المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، فقد كان صاحب رسالة سلام وصاحب رسالة محبة من بداية حياته في إنشاء هذه الدولة، وهذه هي رؤيته ونحن على هذا الطريق نسير"، والمسألة هنا لا تتعلق بالمبادىء والقيم التي تتكىء عليها دولة الامارات منذ تأسيسها فقط، بل تنطلق أيضاً من حسابات المصالح الاستراتيجية، إذ لا يخفي على أحد أن الطموحات التنموية العريضة التي تمتلكها الدولة تحتاج إلى بيئة آمنة ومستقرة من أجل تهيئة الأجواء للعمل والبناء والانتاج وتحقيق سقف التطلعات، الذي يتطلب بدوره تكثيف معدلات التعاون والتواصل مع دول العالم كافة في مختلف المجالات.