قرأت في الاونة الأخيرة تقارير اعلامية عديدة تتحدث عن تفاقم الخلافات بين قادة حركة "حماس"، وتشير إلى أن هذه الخلافات قد خرجت إلى العلن بحسب صحيفة "التايمز" التي تناولت الموضوع في مقال لأنشيل فيفر يدور حول الخلاف بين جناحين داخل "حماس" أحدهما بقيادة اسماعيل هنية الذي يسعى لتحويل الحركة إلى وكيل عسكري لإيران على غرار "حزب الله" اللبناني، بينما يتبنى الجناح الآخر بقيادة خالد مشعل ضرورة ترميم علاقات الحركة مع الدول العربية.
الحقيقة أن الانقسامات داخل حركة "حماس" خرجت إلى العلن منذ فترة طويلة، ومواقف هنية ومشعل معروفة لجميع مراقبي الشأن الفلسطيني، وليس هناك جديداً على هذا الصعيد، ولكن الغريب أن تثير تجربة "حزب الله" وميلشيا الحوثي وغيرهما اعجاب من يُفترض أنهم يسعون لبناء دولة فلسطينية والتوصل إلى تسوية نهائية لقضية عادلة لا تحتاج إلى استنساخ تجارب فاشلة؛ فمن الغريب أن يقتدي من يسعى لبناء دولة بمن نجح باقتدار في تدمير دولة قائمة، أو آخر نجح في دفع دولته إلى الفشل والانهيار!
مشكلة مشعل وهنية ليست فقط في المفاضلة بين التبعية لإيران أو التمسك بالحاضنة العربية الطبيعية للقضية الفلسطينية، بل هي النظرة الأحادية الضيقة للعنف والارهاب باعتباره الطريق الناجع للحصول على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
صحيح أن صفحات التاريخ مليئة بتجارب نجحت من خلالها بعض حركات التحرر في الحصول على الاستقلال وتحقيق أهدافها من خلال حمل السلاح، ولكن يجب الاعتراف بأن الظروف الدولية قد تغيرت او هناك معطيات استراتيجية لا تدعم خيار المقاومة المسلحة كبديل وحيد للحصول على الحقوق المشروعه للشعوب.
المؤكد الأكثر ترجيحاً بالنسبة لي على الأقل، أن تحرير الأراضي الفلسطينية لا يمر عبر طهران، ولن يأتي عبر انخراط هنية أو غيره في مشروع "محور المقاومة" الذي تقوده إيران، وإصراره على أن يكون ذراعاً عسكرياً يأتمر بأوامر قادة الحرس الثوري، وهذا بالمناسبة ليس تحليلاً او استنتاجاً من جانبي بل هو اعتراف رسمي صريح ورد على لسان اسماعيل هنية نفسه في تصريح لقناة العالم الايرانية، قال فيه إن "المقاومة الفلسطينية كجزء من محور المقاومة ستقف إلى جانب إيران في مواجهة أي تهديد أمريكي وصهيوني"، في اصطفاف غريب لمن يفترض أنهم حركة تحرر وطني فلسطيني إلى جانب مشروع لا ناقة للعرب والفلسطينيين فيه ولا جمل، بل إن الجميع يعرف أن المشروع الايراني هو ترجمة لفكر توسعي يتمدد استراتيجياً على حساب المصالح الاستراتيجية لشعوب عربية.
لا أريد هنا الخوض في تفاصيل التوظيف الايراني للحركات والميلشيات كأذرع طولى لها في الاقليم، ولكني استغرب ألا يعرف قادة حركة فلسطينية الفارق بين كون شعبهم يبحث عن حقوق عادلة ومشروعة، وبين التورط في صراع اقليمي لا علاقة له بقضيتهم الوطنية!.
قد يزعم أحدهم أن إيران تمول "حماس" بالأموال والسلاح، وأن العرب لا يقدمون للحركة شيئاً، وهذا صحيح لأن العرب يوجهون أموالهم للشعب الفلسطيني وليس لحركات وتنظيمات تنفقها في شراء الأسلحة وخوض معارك تضر بالشعب الفلسطيني أكثر مما تفيده، ومن ينكر هذا الطرح عليه أن يذكرنا بانجاز ايجابي واحد عاد على الشعب الفلسطيني أو قضيته من جولات العنف العنترية التي خاضتها "حماس" ضد اسرائيل في السنوات الأخيرة! الكل يعرف حجم الدمار والخسائر البشرية والمادية التي لحقت بقطاع غزة خلال التصعيد العسكري بين "حماس" والجيش الاسرائيلي، والكل يعرف كذلك حجم المعاناة والمأساة الانسانية المتفاقمة داخل القطاع.
الحقيقة أن "حماس" وغيرها من الحركات المسلحة قد أصبحت عبئاً على الشعب والقضية الفلسطينية، لأنه ببساطة لا يمكن أن يكون العنف هو الخيار الوحيد لأي حركة تزعم أنها تستهدف الدفاع عن شعبها والحصول على حقوقه!
الحقيقة أيضاً أن مشكلة "حماس" تكمن في رؤيتها الأيديولوجية التي تريد "سلخ" القضية الفلسطينية وتجريدها من عروبتها لأن جذور فكر الحركة الإخوانية لا تؤمن بعروبة القضية الفلسطينية ولا تعترف بروابطها التاريخية والمصيرية مع حاضنتها العربية التقليدية، التي كانت ولا تزال تنظر للقضية باعتبارها أولوية مركزية أولى لها رغم كل الظروف والتغيرات والتحديات الاستراتيجية.
"حماس" لا تعرف سوى لغة السلاح ولم تستوعب أي درس من التفاعلات الحاصلة على الساحة الفلسطينية منذ عام 2006 حتى الآن، ولم تفطن إلى أن نجاحها الوحيد هو تكريس الانقسام الداخلي وعزل نحو مليوني فلسطيني داخل حدود القطاع، في حين لحقت بالقضية والشعب الفلسطيني خسائر كبرى سواء بسبب الانقسامات والضعف الداخلي أو بسبب التغيرات الحاصلة اقليمياً ودولياً وتحديداً ما يتعلق بموجة الفوضى والاضطرابات التي ضربت العديد من الدول العربية منذ عام 2011، أو بسبب التحولات النوعية في السياسة الخارجية الأمريكية.
بطبيعة الحال، يصعب أن ينكر أي مراقب تراجع فرص التسوية السياسية العادلة للقضية الفلسطينية، وأن هناك محاولات اسرائيلية لفرض واقع استراتيجي مستدام، ولكن هذا أمر طبيعي في إطار بحث كل طرف عن مصالحه والتنافس السياسي والحزبي المستمر، ولكنه لا يعني بالضرورة استحالة التوصل إلى حلول دبلوماسية ترضي طرفي الصراع، لأن اسرائيل تدرك أنه لا حل عسكري قاطع ينهي دوامة العنف وسفك الدماء، وأن فرض الحلول من جانب واحد لن يقود إلى الهدوء والتعايش السلمي المنشود بين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي، وأن اسرائيل تسعى بجدية إلى بناء علاقات طبيعية مع كل الأطراف العربية بمن فيهم الفلسطينيين، بدليل نجاح وتطور اتفاقات السلام الأخيرة مع دول عربية عدة، ولكن كيف يصل الجميع إلى معادلة جديدة للحل؟ هذا الأمر يتطلب تفكيراً فلسطينياً استراتيجياً مغايراً واعادة فهم بيئة الصراع في ضوء المعطيات الاستراتيجية الراهنة اقليمياً ودولياً، ووضع مصلحة الشعب الفلسطيني كبوصلة وحيدة للتفكير السياسي، والخروج من أسر الخلافات والانقسامات والأفكار القديمة والقوالب النمطية التقليدية التي تسيطر على القادة الفلسطينيين بمختلف أطيافهم.
- آخر تحديث :
التعليقات