لا ينكر أحد أن التقنية الحديثة قدمت الكثير من الإيجابيات في عصرنا الحاضر الذي يخطو سريعاً نحو العولمة التي أدت إلى ظهور الإنسان المعولم online هذا الإنسان المتصل بشكل شبه دائم مع العالم حوله ما إن ينسى جواله في البيت أو يتعطل حتى يجد نفسه منقطعاً عن الدنيا ويسعى سريعاً لحل هذه المشكلة والعودة إنساناً معولماً متصلاً، أذكر في إحدى الأمسيات تم إستخدام جوالي للبث المباشر لندوة وبقي لمدة ساعتين بعيداً عني وبعد إنتهاء الندوة وجدت عدد هائل من الإتصالات تبحث عني وعندما إتصلت بالمنزل وجدتهم قد خرجوا للبحث عني واتجهوا حيث تقام الندوة للتأكد أنني بخير وعلى قيد الحياة، هذه المتلازمة الخطيرة بين الإنسان المعولم والجهاز أفرزت الكثير من التغيرات على حياة الفرد والمجتمع بل استطاعت أن تكسر الكثير من العادات والتقاليد وتصنع بروتوكولات جديدة تسيّر حياة الناس.

إلى هنا نقول هذا عصر التقدم والتطور ولابد من الأخذ بأسباب التقنية التي سهلت التفاعلات والإجراءات وقرّبت البعيد وحلّت الكثير من المشكلات، ولذا لا تستغرب عندما تشاهد طفلاً في سنواته الأولى وهو بأصابعه الصغيرة يحرك المشاهد في اليوتيوب أو قوقل ليصل إلى ما يود مشاهدته بل أصبح من الطبيعي أن نكون في مجالسنا وبيوتنا وزياراتنا مجرد أجساد والتفكير والإنتباه مصوباً نحو هذه الشاشة الصغيرة.

آمنا بأن التقنية وتطبيقاتها نتيجة حتمية للتطور البشري وأن القادم سيكون أشد شراسة وعتواً.

إعترفنا أن الأمية الآن هي أمية الحاسب والتقنية والذكاء الإصطناعي وأن من يملك هذه التقنيات يملك القوة الفاعلة لإدارة عجلة العمل والإقتصاد.

قبلنا أن نكتفي من الزيارة للأهل والأقارب برسالة نصية نبعثها عبر Broadcast بشكل جماعي لمن نرغب تهنئتهم بالعيد أو مناسبة سعيدة أو عزاء وختم الرسالة بالدعاء مع وردة وانتهت المهمة.

إكتفينا بمشاهدة الحالة في الواتس اب أو السناب شات أو الفيس بوك لنطمئن أن هذا الشخص حياً يرزق.

وهكذا إختلطت حياتنا بهذه التقنية وتعاركنا معها وكفانا حلوها ومرها رغم ما سببت من صدمات للأجيال التي سبقتها بسنين ورأت فيها صدمة حضارية تصل لحد زلزلة الكيان والفكر.

لكن:

ما لم نتوقعه أو لنقل ما لم نكن نتمناه أن تسحب هذه التقنيات البساط من المعلم والمدرسة والمنزل والجامعة والجامع، فهذا الخماسي ظل على مدى الزمن هو من يصنع العلماء والأدباء والمثقفين والمفكرين فمنها تخرج الأساتذة والأطباء والضباط والمهندسين والمخترعين والمبدعين والفنانين وكل أرباب المهن والحرف والمشاهير الذين غطت شهرتهم الأفاق فمع عدم وجود أي وسائل إتصال كان العالم يعرف الرسل والأنبياء والعلماء والشعراء وفي عصرنا الحاضر سمعنا عن أديسون وأحمد زويل ودستوفيسكي والمتنبي وطه حسين والجواهري ومجدي يعقوب وابن باز وسلطان بن سلمان وزُها حديد و د.سلوى الهزاع و د.حياة سندي وهكذا تطول القائمة من هؤلاء المشاهير الذين رفعهم علمهم وإبداعهم وإنتاجهم ورفعتهم همتهم وعزمهم وصبرهم وجلدهم وعصاميتهم فجعلتهم مشاهير وقدوات إجتماعية.

فكيف:

سحبت هذه التقنيات البساط من المعلم والمدرس والمنزل والجامعة والجامع وأنتجت مشاهيراً وقدوات عمت شهرتهم الآفاق؟

قلت في بداية المقال أن هذه التقنيات لها إيجابيات كثيرة لكن السلبية الكبيرة والمهولة لهذه التقنيات هو صناعتها لقدوات ومشاهير مزيفين وتكون مسوغات حصولهم على هذه الشهرة هي التفاهة والتسطيح الفكري والثقافي هذه الشهرة تقوم على مبدأ (خالف تعرف) فإذا كانت الحشمة مبدأ فمخالفتها أصبح يحقق الشهرة، فالتعري وكشف المستور والتخلي عن كثير من ضوابط الأخلاق أصبح يعطي الضوء الأخضر لإنطلاق هؤلاء الأشخاص للوصول للقب مشهور!.

فما نشاهده عبر تطبيقات السناب و TikTok و Instagram من تسابق لحصد ملايين المتابعين والمعجبين ليس إلا بمقدار ما يضخ فيها من التفاهة ومخالفة القيم والأعراف ومن منطلق كلما كثرت التفاهة زاد المتابعين والمعجبين فمثلاً المرأة التي تدعي الشهرة ماذا تقدم لتحصل على هذا اللقب المزيف بالتأكيد ليس تقديم محتوى علمي أو ثقافي أو أدبي أو فكري ولكن الملاحظ هو تقديم محتوى مشاهد للعيون وفق نظرية تنازل أكثر تنشهر أكثر، أما الشباب الذين نراهم يدعون الشهرة وأصبحوا يمشون في مواكب ويستقبلون إستقبال الفاتحين وتعطى لهم الهدايا وتفتح لهم أجنحة الفنادق الفخمة فليس أكثر من محتوى هزيل قائم على التهريج والتسطيح وقد أستثني قلة لا تذكر حتى لا أعمم.

ثم توسعت أثار هذه الوسائل والتطبيقات لتدخل عالم الدعاية والإعلان والتجارة وكلما كان الإستعراض مثيراً وفاتناً وملفتاً تدفقت العروض لنرى من يلعب بالملايين ويستعرض بالسيارات الفاخرة والقصور والفلل الفخمة التي لا يحلم عالم ذرة بالحصول عليها ممن يسمون السنابيون والسنابيات واليوتيوبر... وهكذا.

في الواقع أنها إنتكاسة في الفكر البشري أن يصبح بعض الجهلاء والفارغين قادة رأي وموجهين للرأي العام وكأن صناعتهم كانت مقصودة لأن الجهال إذا سادوا وتصدروا المشهد وقادوا المجتمع تحققت آمال وأحلام المتربصين

لا يصلح القوم فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

وما يؤسف له أنهم في إزدياد وتوسع وأصبحت عيون النشء والأطفال موجهة لهم وهنا مكمن الخطر أن تتوارى القدوات الفاعلة الحقيقية ويتصدر قدوات بالونية لا تقود إلا للضياع والتشتت وقد لا يتسع المجال للإسهاب في رصد خطورة إستمرار هذا التدفق الواهي في المجتمع واتساع دائرته مع غفلة أو سكوت من المجتمع وقواه الفاعلة لكبح هذا المد المزيف الفارغ وتكون الخطورة أكثر أن يتم إستغلالهم من جهات معادية لتمرير رسائل تمس الوطن والوطنية وتضرب ثوابت المجتمع.

أعتقد أننا بحاجة إلى مشروع وطني توعوي لإيضاح خطورة تصدر هذه الفئات على حساب الفاعلين الحقيقيين والتوعية من الإنجراف خلفهم وخلف ترهاتهم وما ينفثونه من ثقافات وتجهيل.

الأمر الثاني والأهم هو لابد من تدخل الجهات الفنية والتقنية لحماية المجتمع ومكتسباته من هذا المد الخالي من أي محتوى مفيد وذلك بإقفال حسابات هؤلاء الأشخاص من منطلق حماية المجتمع ولعلنا نستذكر أن هناك دولاً كثيرة أقفلت تطبيق Tiktok أو السناب شات لضرره الكبير وما يحويه من محتوى مشوه للقيم والأخلاق وما يبث خلاله من محتوى لا أخلاقي ومبادئ الإلحاد والشذوذ والتمرد والتنمر على الأسرة والمجتمع الأمر الذي قد يجر ويلات على المجتمع في وقت نقول فيه فات الأوان!!!