يعيش النظام الإيراني منذ الثورة في عام 1979 حالة قطيعة داخلية وخارجية غير مسبوقة على مستوى الدول وأنظمة الحكم، والقطيعة التي نقصدها هنا أن النظام لا يمتلك علاقات طبيعية سواء مع شعبه أو مع دول العالم، ولكننا لا نقصد بالمقابل أنه يعيش حالة عزلة تامة كما يقول بعض المراقبين والمحللين، ليس فقط لأن النظام يمتلك علاقات تحالف قوية مع قوى دولية ولو من باب النكاية في "الشيطان الأعظم"، ولكن أيضاً لأن فهم الحالة الإيرانية يستوجب تشخيص وفهم أبعادها بشكل دقيق كي يمكن بناء تصورات للتعامل مع حقائق الجغرافيا، التي تجعل من إيران جارة إقليمية ومن ثم فإن التعامل معها حتمية جيوسياسية لا فكاك منها.

الإحتجاجات التي تشهدها إيران هذه الأيام ليست عابرة ولا غريبة على المشهد الإيراني الداخلي، الذي يبدو في حالة إحتقان مزمن ووضعية ترقب بإنتظار أي شرارة تشعل حماس الغاضبين للخروج إلى الشوارع. وقد جاءت الشرارة هذه المرة بسبب نهاية مأساوية لفتاة تم القبض عليها بسبب طريقة إرتداء الحجاب، حيث اشتعل الغضب واندلعت أسوأ اضطرابات إيرانية منذ سنوات.

هذه المرة تحديداً لا يمكن للنظام الإيراني إتهام أي طرف خارجي بتدبير الإحتجاجات، لأنها صناعة محلية بإمتياز، ورغم ذلك نسمع كثيراً تصريحات لمسؤولين إيرانيين يرددون الحديث المتكرر ذاته حول "مخطط خارجي" وأطراف ممولة وجهات إقليمية واذاعات أجنبية وغير ذلك من تبريرات يحاول النظام من خلالها التنصل من مسؤوليته عن تصاعد أزمة صغيرة وتضخمها لتتحول إلى تحد كبير للنظام!

"مهسا أميني"هذه الفتاة الإيرانية التي راحت ضحية العنف السلطوي والتطبيق المتطرف لما يعتقده البعض قواعد دينية، أشعلت الأرض تحت أقدام نظام لم يبذل أي جهد طيلة العقود والسنوات الماضية من أجل التقارب مع شعبه، رغم ما عرف عنه من قدرة ودهاء في التقارب مع دول وأطراف كبرى لضمان مصالحه وبالتالي بقائه في السلطة، و"أميني" لم تكن الضحية الوحيدة للعنف المفرط للميلشيات المخولة رقابة تنفيذ التعليمات الدينية، بل هناك عشرات من القتلى على يد أفراد الأمن الإيراني حتى الآن.

تسبب هذا التطرف في أن تخلع مئات النساء الإيرانيات حجابهن في تحد قوي للنظام والتعليمات التي يطبقها، ولم يتحقق ما يبتغيه هؤلاء من ردع وتخويف للنساء، وفرض الأوامر بالقوة في مجتمع يشعر بقسوة القيود السلطوية المفروضة عليه، وهو ما تعكسه مؤشرات هجرة الإيرانيين التي ترتفع من عاماً لآخر حيث كانت 1.45% من عدد السكان الإيرانيين منذ ثلاثة عقود، أي في ذورة الصخب الثوري والتطرف في تطبيق الأحكام والعقوبات، وارتفعت إلى 2.32% في عام 2019، حتى اصبحت إيران واحدة من أبرز الدول الطاردة لسكانها، ولاسيما النخب التي تبحث عن أي فرصة للفرار من قبضة النظام.

كل هذا العنف الذي استخدم للسيطرة على الإحتجاجات الإيرانية لا يتماشى مع ما يقوله إبراهيم رئيسي عن "توفير كل ما يلزم من أجل تسهيل عودة الإيرانيين من الخارج"، وأن جذب المستثمرين الإيرانيين المقيمين في الخارج أولوية لحكومته، التي يراها مسؤولة عن الإيرانيين في الداخل والخارج أيضاَ.

إيران ليست دولة فقيرة حتى يعاني شعبها بهذا الشكل المتردي، ولكنها تعاني فشل السياسات وتوجيه الموارد نحو تمويل مخططات النظام التوسعية والإنفاق على أذرعه وميليشياته الطائفية في دول مختلفة، ومن السخف تحميل العقوبات الدولية أو الأمريكية مسؤولية سوء الأوضاع المعيشية، ولكن من العقلانية التساؤل عن سبب هذه العقوبات وليس عواقبها، وصولاً إلى تشخيص دقيق للمسؤول عن سوداوية المشهد الإيراني الداخلي، الذي ادى إلى إنخفاض معدل المواليد من 91.3 في عام 1986، ليصل إلى أقل من 1%. صحيح أن السياسات السكانية في بعض الدول تقتضي خفض معدلات الانجاب، وهو أمر حاصل بالفعل في دول متقدمة عدة، ولكنه خفض طوعي، وليس نتاج خوف من المستقبل وسوء أحوال معيشية وانعدام للقدرة على الزواج وغير ذلك.

بحسب تقارير حكومية إيرانية، إرتفعت أسعار المساكن في البلاد بنحو 400% خلال السنوات القلائل الأخيرة، في وقت يتباهي فيه النظام ببناء مدن صاروخية تمتد بطول يتجاوز 70 كم تحت الأرض على سواحل الخليج وبحر عمان، بخلاف المدن العائمة، وترسانات المسّيرات التي تهدد دول المنطقة، ويقول قائد القوة البحرية للحرس الثوري الإيراني، الأدميرال علي رضا تنكسیري: "هل العقل السليم لشعب ذكي كالشعب الإيراني الذي أنتج لقاحات ضد فيروس کورونا وصنع الأسلحة والصواريخ وكل ما تفكر فيه، هل يعقل أن يقوم بعرض جميع إمكانياته وقدراته؟"، نعم صحيح أن هذا جزء مما صنع النظام في أموال الشعب الإيراني، ولكن لا علاقة له بذكاء الشعب الإيراني، الذي يفضل بالتأكيد توجيه هذه الموارد الهائلة لبناء مدن يسكنها الشباب وليست مخازن للصواريخ!

ليس هناك أحد يعادي تقدم إيران وتطورها، بل العكس صحيح تماماً، فإيران مستقرة متقدمة اقتصادياً وتنموياً هي إضافة نوعية مطلوبة إقليمياً وبشدة، وذخيرة وعنصر إستقرار جوهري لدول الجوار، بل كان ـ ولا يزال ـ من الممكن أن تستغل إيران قدراتها في إحداث طفرة صناعية وزراعية وتقنية تعود بالنفع على عشرات الملايين من أبناء الشعب الذي يفضل الموت برصاص "الباسيج" على العيش تحت رحمة التطرف والتشدد.

لن تكون "مهسا أميني" الضحية الأخيرة للقمع الإيراني، ولكنها ستبقى دليل إدانة لنظام يزعم الدفاع عن حقوق الشعوب الأخرى، ويواصل هدر ثروات شعبه وأمواله تمسكاً بالسلطة والنفوذ ولا يكف عن نشر الفوضى والإضطرابات وتمويل الإرهاب ولا يكتفي في ذلك بما فعله فوق الأرض بل يمتد إلى مدن تحت الأرض!