عندما قرر صدام حسين تنفيذ خطيئته الكبرى بغزو الكويت، لم يكن المجال مفتوحاً لإسداء الرأي والنصح، وما كان للبعثيين آنذاك إلا التجذيف بالقارب وفقاً للاتجاه الذي يرسمه القائد، حتى وان لم يكن يقود الدفة في الاتجاه الصحيح. وهذا حال قادة حماس في قطر، الذين شاهدوا كما شاهد عامة الناس عبر التلفزيون المشاهد الأولى من اقتحام السياج الفاصل بين القطاع وغلاف غزة، وعلموا كما علمنا ببدء معركة طوفان الأقصى التي قررها يحيى السنوار منفرداً، كما انفرد صدام بقراراته وبالعراق.

كترث الأقاويل والتحاليل في الآونة الأخيرة عن تأثير المرحلة التي أمضاها رئيس حركة المقاومة الإسلامية في غزة (حماس) في السجون الاسرائيلية على سلوكياته وشخصيته، ومدى انعكاس ذلك على مركز القيادة واتخاذ القرار. وبما أنني لست من أهل الاختصاص أو الخبرة في التحليل النفسي كي أغوص السنوار لقراءة من هذا المنظور، فسأكتفي بقراءة انعكاسات قرار خوض معركة طوفان الأقصى من منظور شخصي وسياسي، وسأحاول الإجابة عن جدوى الدخول في مواجهة عسكرية احتمالات فشلها تفوق احتمالات نجاحها بنسبة الضعفين على الأقل.

الهدوء المخادع الذي قدمته حماس لإسرائيل منذ نهاية معركة سيف القدس يدفع إلى تصور حركة تتجه لأن تكون أكثر اعتدالاً ووعياً وتحسساً بالمسؤولية تجاه 2,5 مليون مواطن يسكنون رقعة جغرافية انهكتها الحروب والصراعات. وكانت اللقاءات التي جمعت فتح وحماس في الجزائر، وما شهدته من حديث عن نبذ الانقسام والعمل الفلسطيني المشترك تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، تعطي انطباعاً بأنَّ حماس قررت طي صفحة الانقسام والدخول في معادلة النظام السياسي الفلسطيني كجزء متصل لا منفصل. أيضاً، كانت سلسة اللقاءات التي جمعت مسؤولين في الجناح العسكري للحركة مع رئيس المخابرات العامة المصرية تُفسَّر على أنها محاولة للحفاظ على مكتسبات الهدنة وتثمنيها، وذلك في سبيل فكّ الخناق الاقتصادي الذي انعكس على شعبية الحركة داخل غزة. وكان قرار عدم انخراطها في معركة وحدة الساحات التي قادتها الجهاد الاسلامي دلالة على أنها تعلمت من أخطاء السابق، وأصبحت أقل اندفاعية وأكثر عقلانية. سنتان من الخداع الاستراتيجي انتهت، وبدأ معها الخطأ الاستراتيجي الأكبر في تاريخ الحركة، وهو الذي قد يكلفها غزة، ووجودها المسلح في فلسطين بأسرها.

قيادات الجناح السياسي قالت إنَّها لم تكن تعلم التوقيت، لكنها كانت في انتظار ساعة الصفر، وأن وطوفان الأقصى كان خيار الاجماع الذي ترجمه السنوار منفرداً إلى فعل. لكن، هل كان من الصواب فتح مواجهة في توقيت يخدم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو فيما يواجه أزمة سياسية داخلية غير مسبوقة؟ ألم يجد نتنياهو في هذه الحرب الحل للخروج من الأزمة التي أحدثتها التعديلات القضائية في إسرائيل؟ ألم يكن من العقلاني ترقب تغيير سياسي في إسرائيل بعد أزمة القضاء، والذي كان من الممكن أن يأتي بجديد في ملف "وفاء الأحرار - 2" بدل طوفان أتى بدبابات الاحتلال إلى قلب شوارع غزة؟ ألم تدرك قيادات حماس في الداخل أنَّ ارتدادات طوفان الأقصى قد تبتلع غزة بمن فيها، وأن السحر قد ينقلب على الساحر، وأن معركة التحرير قد فتحت الباب لسيناريو التهجير؟ ألم تكشف هذه الحرب الغطاء عن حلفاء بارعين في الأقوال لا الأفعال؟ خلافاً لكل ما يقوله السياسيون في الحركة عن الإجماع الحاصل، فإنَّ القرار كان انفرادياً، لا يستند إلى قراءات في المشهد العام، ولا لتقدير موقف، ولا حتى لاعتبارات إنسانية، إذ أنَّ سكان غزة هم أول من سيكون في الواجهة وأول من يدفع الفاتورة.

ربما نسي السنوار والذين معه ممن عولوا على منابر المؤسسات الأممية وعلى دور الصورة والإعلام في إيقاف الحرب أنَّ هذه الأدوات لا تنفع بشيئ ما دامت أمريكا تسمح لإسرائيل بأن تصل مبتغاها، وما دام الأقوياء موجودين في صف إسرائيل، حتى وإن كانوا يظهرون نوعاً من الانزعاج من تصرفاتها، لكن ذلك لا يعني أنَّهم سيتعاطفون مع حماس بشكل أو بآخر. وكان على السنوار أن يستوعب وينتبه لوزن حماس الضعيفة على الصعيد الخارجي، وأن يقرّ بحقيقة أنَّ اللعب على قوة التأثير الإعلامي بإبراز معاناة الغزيين يمكن أن يستجلب حملات تعاطف أو موجات انتقادات، لكن إسرائيل لا تستجيب لمطالب "أخلقة حربها" ضد من يريد إزالتها من الوجود.

خطاب الصمود والتضحية والتحية لأهل غزة، الذي تردده قيادات حماس البعيدة عن ساحة الحرب مئات الأميال، قد بلغ منتهاه بعد أن أدرك الناس أنهم تركوا ليواجهوا قدر الموت. جاء طوفان الأقصى بكل ما حمله من معاناة ليؤكد أنَّ قادة الحركة وأبناءهم منفصلون عن واقع الغزيين، وبعيدون تماماً عن تفاصيل حياة الناس المريرة في حرب لا يسلم منها لا الحجر ولا الشجر فكيف البشر، وشتان بين قادة يخرجون من بيوت آمنة إلى منابر الإعلام بخطابات رنانة معلنين انتصارهم ودحر العدو، وبين من يخرج من الملجأ ليبحث عن كسرة خبز وقطرة ماء فتصطاده نيران القناصة أو الصواريخ.

الحقيقة أنَّ هذه الحرب، والتي اكتفت فقط بهز صورة حكومة نتنياهو في الخارج، كان مقابلها أستنزاف آخر ماتبقى من رصيد حماس الشعبي داخل غزة.