كان أول ظهور لنظرية الفلسفة الميتافيزيقية في القرن السادس عشر على يد فلاسفة مغمورين وغير معروفين، ولم يتقبلها الفلاسفة الكبار الذي عاصروا المطروح منها في ساحة الفلسفة العالمية، لذلك واجه روادها الأوائل صعوبة وعقبات كأداء كادت تطيح بطموحهم في جذب الناس إليها وتقبلها، وذلك لصعوبة فهم الطروحات الفكرية المتعلقة بها من قبل معظم الفلاسفة الذين نظروا إليها بعين الإزدراء وقلة الإهتمام، ولم يلطف في مزاجهم كيانها الهش فكرياً، ويترعرع إبداعها المحدود علمياً في كياناتهم الوجودية.

فضلاً عن هذا وذاك، كان الإبهام الأسود والغموض الكالح المطلق الذي كان يحيط بمكوناتها المعرفية، والتي نظر إليها بعض الناس على أنها من المكون المتصلب غير القابل على الإطلاق على التمحور في إطار قالب يشيم فيه الفلاسفة نوعاً من الليونة والطراوة تساعدهم على فهم مكنون أسسها التي بنيت عليها بهدف الإطراء عليها من أجل زيادة مساحة قاعدة مرتكزها وتقوية تجذيرها البنيوي عند الناس من المشغوفين بالمعرفة الفلسفية وتبني منطلقاتها في عالم الفكر الفلسفي القديم والمعاصر، وذلك لكون عالم الفلسفة عالم محدود وضيِّق القاعدة الإنسانية لعدم استساغة غالبية الناس للفلسفة، حتى أنَّ البعض منهم في العالم الإسلامي عدوها على أنها مكون نثري تكفيري، بسبب عمق بحر الفكر الفلسفي المعقول والمقبول، والذي لا يستطيع الوصول إلى أعماقه دارسو الفلسفة وعشاقها، ونظراً لعدم قدرتهم على استيعاب بنائها الفكري وفشلهم في تسلق جدارها العالي، عبّروا عن عجزهم ذلك بأنَّها كفر ليتخلصوا من عبء التواصل معها.

لذلك، وكثير غيره، لا تسطيع المساحة المعرفية الإنسانية المحدودة ذات الطبيعة الانقلابية المضطربة استيعاب البعد الفلسفي لهذه الظاهرة الفلسفية عند التوسع في تناوله على طاولة البحث والدراسة والتحليل، لأنَّ هذه الأمور تستدعي من الإنسان الذي يتصدى للتعامل بها كأدوات لفهم سياقات نسق هذه الفلسفة والتعامل بها كآليات مع الآخرين، لكي يصل الى النجاح في توسيع مساحة المتلقين للاستراتيجية النظرية لهذا النوع من الفلسفة غير المستساغ عند عامة الفلاسفة.

لذلك، كانت مكانة هذه الفلسفة بين الناس ضعيفة ومتردية ومهزوزة، بسبب تحجر فكرها المطروح وتخشب موقفها من أنشط الحياة المادية التي تنظر إليها على أنها كيان مزيف يعيش الناس فيه بين أحضان الوهم والخيال في حياة ليس فيها شيء ثابت الكتلة ولا محدد الجاذبية ولا واضح الحجم، فكل شيء يلفُّه الغموص ويكتنفه عدم الوضوح والتغير، فلا شيء يستقر على حال في الزمان ولا في المكان، فكل شيء وكل الكائنات المادية في الأرض والسماء معرضة للمحق والزوال أو التغير المستمر من حال إلى حال.

أقوى دليل على ذلك هو الإنسان، الذي يمر عبر مسار حياته المادية بعدة أطوار من موجود مبهم الكينونة وهو في بطن أمه، ويرافقه هذا الإبهام طوال أطوار حياته المادية، إلى الموت وحتى بعدما يدفن يزداد مصيره غموضاً، وذلك لأن تراب سطح القبر يحول بين حياته في القبر وبين الناس الأحياء.

وبسبب هذا الموقف المشحون بالحيرة بين الحياتين الذي يزيد من جهل الإنسان وحيرته، كان القدماء يقومون بدفن الأدوات والملابس والأكل والشرب، وحتى يدفنون بعض الناس المقربين من الميت معه، فإذا كان رجلاً يدفنون معه إمرأة لظنِّهم أنَّ الميت يعيش حياة مادية أخرى، فيحتاج فيها إلى مستلزمات الحياة المادية من غذاء وأدوات وملابس وغيرها.

من هنا، فإنَّ عزوف الناس الدارسين لهذا النوع من الفلسفة والمهتمين به كان يزداد شيئاً فشيئاً حتى تلاشت من على سطح كوكب الأرض، وأفل نجمها حتى هذه الساعة، لكنها قد تبعث من جديد على يد فلاسفة وعمالقة فكر وإبداع وابتكار، يهتمون بها ويعملون بشكل متواصل وحاد من أجل بعثها، خصوصاً أنَّ لها علاقة وثيقة بنظرية انشتاين في نسبية الوجود، لأنَّ هذه الفلسفة هي التي ألهمت هذا العالم بهذه النظرية العظيمة التي شكلت قفزة كبيرة وعظيمة في حياة الإنسانية على طريق التقدم العالمي والتطور التكنلوجي، وذلك بعد أن كان الناس يتصورون أن كل شيء في الأرض والسماء ثابت الكتلة والحجم والكثافة، ولا يتغير ولا يتبدل إلاّ بالموت إن كان كائناً حياً، ولا تتغير أحواله وصفاته ومكانته إلا من طريق عوامل التعرية أو التغيرات البيولوجية التي تطرأ على سطح الكوكب وفي الفضاء الخارجي المحيط به إذا كان من الجمادات.

ولا أنسى هنا في مقام هذه المقالة في تأثيرها الواضح على كثير من الفلاسفة في نتاجهم الفكري، ومنهم جورج هيغل في طرحه المادي الذي استفاد منه كارل ماركس لاحقاً، بعد أن عكف على دراسته ثم استغله في وضع فلسفته في الديالكتيكية المادية، فقد كان هؤلاء الفلاسفة وغيرهم من الفلاسفة ذوي الميول المادية مثل جون لوك تأثير مهم في صياغة نظريات فلسفية مهمة جداً تركت أثراً بالغاً في مسار معالم أنشطة الحياة الإنسانية الأخرى نحو الافضل.