كانت الحرب السورية في منتصفها، والمعارضات السورية المسلحة تطبق على دمشق، حين صدر أمر إيران لحزب الله، فأرسل عسكره إلى سوريا لنجدة النظام. يروي أحدهم، يزعم أنه شاهد عيان، إن والد أحد الشباب الذي عاد في نعش أصفر، بعدما أدى "واجبه الجهادي" في أحد أحياء حلب، وقف مكسورًا حاني الرأس دامع العين، يستقبل المعزين والمواسين في إحدى قرى الجنوب اللبناني. دخل عليه رجل بطين قليلًا، هو أحد نواب "المقاومة" في البرلمان اللبناني، وبادره مبتسمًا: "إني أهنئك باستشهاده عريسًا.."، وأطنب في المواساة على الطريقة الشيعية. أجابه الوالد المكسور مكتئبًا: "العقبى لأولادك، فنراهم عرسانًا شهداء".

على ذمة الراوي، امتقع وجه البرلماني المقاوم، فأسرع في أداء واجب التعزية وغادر، تاركًا الجمع يرثي فقيده الذي ما تجاوز بعد التاسعة عشرة من عمره، وكان أبوه يظنه يدرس الفقه في جامعة بطهران.

ليس هذا الكلام هنا لنكء أي جراح، إنما يأتي دعوة للتفكّر. ففي ذلك الحين، سأل الكثير من الشيعة "عما يضطرنا إلى إرسال زهرة الشباب إلى سوريا ليموتوا برصاص الكفرة من جبهة النصرة وتنظيم داعش وغيرهما من الجماعات الجهادية؟" كانت الحِجَّة جاهزةً: "إن لم نذهب إليهم، فسيأتون إلينا، ويقتلون شيبنا، ويسبون نساءنا، ويستعبدون أطفالنا، ويغتالون شبابنا". نجحت "غوبلزية" الحزب في "صنع عدو لبناني هو شبح الجهاديين السنة في سوريا"، ليبرر تدخله في الحرب السورية، وليتبرأ من موافقته على "إعلان بعبدا" الذي ينص على نأي اللبنانيين بأنفسهم عن سياسة المحاور الإقليمية، ولو كان اللبنانيون والسوريون والعرب والعجم مدركين أن السبب الأول والأساس لهذا التدخل هو أمر الولي الفقيه.

إقرأ أيضاً: حماقة إسرائيل أو حنكة إيران؟

اليوم، تغيرت ساحة القتال، وبقيت الحجة، بتصرّفٍ طبعًا.

أرادت إيران أن تقول لأميركا وإسرائيل وغيرهما "أنا هنا، ولا حلّ من دوني"، فاشتعلت جبهة جنوب لبنان، بعد يوم واحد من غزوة حماس التي اجتهد الحماسيون كلهم، وحزب الله من رأسه إلى أخمص القدمين، وإسرائيل معهما، لتبرئة إيران منها. وحين سأل بعض الشيعة "عما يضطرنا إلى تحمل هذه الخسائر البشرية الفادحة التي تحل في شبابنا، وخصوصًا قادة الميدان الذين تتصيدهم المسيّرات الإسرائيلية، وبينهم حتى نجل أحد نواب الحزب نفسه"، كانت الحجة جاهزةً أيضًا: "لو لم نبادر إلى فتح الجبهة وإشغال الجيش الإسرائيلي وإرهاقه، لكان دورنا سيأتي بعد الفراغ من حماس في غزة". ويبدو أن "الغوبلزية" نفسها ناجحة في صنع مبررات تَطمُر تحت أنقاضها حقيقةً جلية: "ليس حزب الله في جنوب لبنان اليوم إلا صندوق بريد إيراني، والرسائل النارية في الميدان أو على الشاشة الخطابية لا تقنع أحدًا خارج بيئة الحزب نفسه". فلمَ لم ننتظر حتى تبادر إسرائيل بعدوانها، فيكون الحق في المقاومة لبنانيًا حقًا؟

إقرأ أيضاً: هيا بنا نقصف سوريا!

يجاهر بعض الشيعة الذين خرجوا من تحت عباءة الحزب وإيران بالقول إن هذه الحجة "الجاهزة" واهيةٌ.. فلو كانت "وحدة الساحات لنصرة غزة" همّ إيران وذراعها القوي في لبنان، "لكنا رأينا رايات المقاومة الإسلامية في لبنان مزروعة في المطلة وغيرها من قرى الجليل الأعلى وبلداته، وشهدنا انهيار ما يسمى بقواعد الاشتباك التي يلتزمها الحزب أحيانًا أكثر مما تلتزمها إسرائيل". ويسألون: "بم أفدنا غزة؟"، وهو سؤال لا جواب منطقيًا عليه من خارج أدبيات المراوغة الأيديولوجية الجهادية المرتبطة بأدبيات فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الذي يقال بالحق إنه حارب في كل مكان، إلا في القدس. هذا طبعًا، ومن دون أي تردد، مع الاعتراف بحق حزب الله وغيره في مقاومة إسرائيل "إن" هاجمت لبنان.

إقرأ أيضاً: بايدن وخامنئي.. وهوليوود!

لكن، ما يحصل اليوم هو أن الجنوب اللبناني رازح تحت تبادل حزب الله وإسرائيل التهديدات التي تبدو فارغة، وأن طهران لم تلعب ورقتها الحربية بوجه أميركا في لبنان، إنما في اليمن. فهناك، المواجهة مع "العدو الأكبر" أقل شدة من أي مواجهة هنا مع "العدو الأصغر".

وما يحصل فعلًا هو أن مصير لبنان المتهافت، اقتصادًا وسياسةً وسيادةً ودستورًا وروحًا، مرهون بألعاب الخفّة الإيرانية. وربما يبقى كذلك طويلًا.