أتذكر دعابة كررها أمامي صديق بعثي عراقي مرارًا عن مفكر سوداني كان يتكلم عن "بغايا اليسار العربي"... فالسودانيون يلفظون القاف غينًا... وليس في الأمر شتيمة.

لا أدري ما كان إحساس اليساريين اللبنانيين حين كانوا يشاهدون صور اجتماعات الحركة الوطنية. ففي وسط الطاولة، كان "المعلّم" كمال جنبلاط، الحائر بين روحانية التوحيد وجسمانية المادية الاشتراكية والباحث دومًا عن اشتراكية أكثر إنسانية، يجلس وعن يمينه جورج حاوي، أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني الماركسي اللينيني، وعن يساره محسن ابراهيم، أمين عام منظمة العمل الشيعي التروتسكية وأمير عام الحركة الوطنية نفسها، وإلى جانب إنعام رعد، رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي... وتكرّ السبحة مع ابراهيم قليلات، قائد الناصريين المستقلين "المرابطون"، وعاصم قانصوه، الأمين القطري لحزب البعث العربي "السوري" الاشتراكي، والتنظيم الشعبي الناصري، وغيرهم كثيرون.

كيف استطاع جنبلاط أن يلمّ الشامي على المغربي بهذه الطريقة؟ سؤال يذهب الباحث عن جواب عنه فلا يعود. على سبيل المثال، ماذا يجمع الحزب السوري القومي اجتماعي بهؤلاء الشيوعيين والقوميين العرب؟ وكيف تمكن جنبلاط، أحد تلامذة المهاتما غاندي، أن يتحمّل ثورية حاوي وابراهيم مثلًا؟ ربما لم يتمكن دائمًا من تحمل هذه النزعة الثورية، لذا يقال إنه لم يفكر عشية الحرب في تسليح حزبه التقدمي الاشتراكي، وحلفائه الشيوعيين.

لولا البندقية الفلسطينية، لكانت قوات الجبهة اللبنانية اليمينية وصلت في عام 1976 إلى السيطرة على العاصمة. فالفلسطينيون الذين كانوا أحد أسباب اندلاع الحرب الأهلية في نيسان (أبريل) 1975 هم من تصدوا للكتائب والأحرار وحراس الأرز والتنظيم في ما سمي حينها "حرب الفنادق"، وردوهم على أعقابهم بعيدًا عن بيروت الغربية. ويروى أن الحركة الوطنيّة، بتواطؤ مع الثورة الفلسطينية، وبحجة لبننة الصراع "الواهية"، توّجت الناصريين المستقلين "المرابطون" أبطالًا في معركة الفنادق، ليرسم اليسار اللبناني إشارات النصر على الانعزال واليمين.

استمر مشهد الحركة الوطنية النافر بعد اغتيال كمال جنبلاط في 16 آذار (مارس) 1977، وتوّج ابنه وليد ملكًا على جمهورية لبنان اليسارية الفلسطينية، إلى أن سئم "وليد بك" صحبة من صاروا يشبهون ليونيد بريجنيف في أواخر أيامه، وقرر شطب الحركة الوطنية بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982.

اليوم، يبقى من هذا اليسار اللبناني كله حزبان: التقدمي الاشتراكي والشيوعي اللبناني، إلى جانب بعض جيوب اليساريين المستقلين.

بعدما كان الحزب التقدمي الاشتراكي في أيام كمال جنبلاط ملاذ المثقفين والمنظرين ورجال الفكر والسياسة، وحتى رجال الدين من أمثال الشيخ الأحمر، الراحل عبدالله العلايلي، صار اليوم حزبًا "درزيًا"، على الرغم من بعض الخروقات المذهبية الأخرى، من دون أي دور يساري فاعل في المشهد السياسي اللبناني، إلا لغايات في نفس "وليد بك"، ووريثه في الزعامتين الاشتراكية والتوحيدية "تيمور بك".

وبعدما كان الحزب الشيوعي اللبناني متصدرًا الحركة المطلبية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في البلاد، ما عاد صوته مسموعًا، إذ حشر نفسه تحت جناح حزب الله سياسيًا، من منطلق "الشراكة في مقاومة إسرائيل" كما يقول منظرو الحزب اليوم (نسوا مهدي عامل وصحبه "الشهداء" الذين أرداهم الحزب في الثمانينيات)، وتخلى عن دوره في النقابات من دون مقاومة تذكر، تاركًا الساحة للمكاتب العمالية "المعروفة".

كانت انتفاضة الشعب اللبناني في 17 تشرين الأول (أكتوبر) فرصة ليلتقط اليسار اللبناني أنفاسه، فيقدم بدائل فعلية وإصلاحية لنظام متهافت، إلا أنه لم يستطع الخروج من قبضة الطوائف القاسية.

عفوًا عزيزي المفكر السوداني.. أرى أن الغين على لسانك أفصح من القاف في وصف حال اليسار في لبنان.