لا يوجد عاقل يصدق الكلام الكاذب وغير المعقول وغير المنطقي، خاصة إذا خرج ممن اشتهر بالكذب؛ هذه من البديهيات التي جعلت الإنسان كائناً راقياً يمتلك جوهرة العقل، ليميز بين المعقول واللامعقول. لكني، ومن خلال التجربة، أدركت أن الكثير من الناس، للأسف، يمكن إقناعهم بالأفكار والكلمات غير المعقولة، ويمكن ملء أدمغتهم بالخزعبلات وترويضهم لقبول ما لا يعقل. هذا الكلام لا ينطبق فقط على العاقل والجاهل، بل أيضاً على العقلاء الذين حازوا تحصيلاً دراسياً أكاديمياً عالي المستوى.
كيف يحصل ذلك؟ من خلال ثلاثة عوامل. الأول، عندما يتربى العاقل السوي داخل بيت ووسط مجتمع يتناقل المفاهيم الخاطئة المشبعة بالعاطفة والبعيدة عن العقل، يصبح ذلك جزءاً من شخصيته، فيميل ويحن إلى ذلك الجزء كلما مرت السنوات، لأن فيه ذكريات الطفولة الجميلة، ولأنه لا توجد مفاهيم خاطئة مقبولة بدون سيل عاطفي عارم، وهذا شبه ثابت في حياة الإنسان، لذلك ستبقى الصورة جميلة في الذاكرة.
العامل الثاني، عندما يعمل الحكام جاهدين من أجل التمسك بالسلطة، مما يضطرهم إلى ظلم الناس وتعنيفهم وسلب حقوقهم، فيرتفع سقف ظلمهم إلى حد لا يطاق. ذلك الظلم سيدفع الناس إلى البحث عمن يخفف عنهم الآلام، فيجدون ضالتهم والتعاطف والمودة والمساندة في الدجالين الذين يتربصون بمشاكل الناس. سيصبح الدجال أباً روحياً عطوفاً لهؤلاء المظلومين، يواسيهم ويعطيهم الأمل بالخلاص والنجاة، فتصبح فرصته سانحةً لكسب ودهم والتقرب إليهم ثم التلاعب بعقولهم.
العامل الثالث، عندما تكون جميع الأفكار العفنة موروثات اجتماعية، وجزءاً من عقيدة وتقاليد وثقافة المجتمع، فالعودة إليها مع ضغوطات الحياة تصبح مرغوبة لأنها متجذرة في النفوس. من خلال هذه العوامل، كل ما يضاف من كلام كاذب ودجل وشعوذة يكون مقبولاً عند هؤلاء الناس، ويستطيع أي عاقل اختبار حقيقة هذه العوامل المسببة لتلوث العقول عند الناس بسهولة مطلقة من خلال إعلان معاداته لهذه الأفكار ورموز هذه الأفكار سيجد صداً من الناس عنه، وتعرضه للإزدراء والكراهية، ونفور المجتمع ممن تجرأ على الطعن بالرموز المعتبرة، أو على الشخص الذي تجرأ على الإساءة لما هو خط أحمر كما يسمونه.
إنَّ القدرة على عدم تصديق الكلام غير المنطقي موهبة يتحكم بها العقل، ولا يمتلكها إلا القلة، وتزداد نسبتهم في المجتمعات المتطورة التي من سماتها التمرد على كل موروث خاطىء. وأظن أن الفارق الزمني بين المجتمعات المتطورة والمجتمعات المتخلفة كان ضئيلاً قبل قرن أو أكثر، لكنه اليوم توسع ومن المحتمل أن يصبح الفارق شاسعاً لتحتوي كرتنا الأرضية في يوم من الأيام على عالمين، الأول يسبح في الفضاء والعلم والتكنولوجيا والفضيلة والعقل، والآخر يسبح في التخلف والرذيلة والجهل، عالم يقل فيه الكلام إلا ما ينفع ويكثر فيه الفعل والإنتاج والسرعة، وعالم يكثر فيه الكلام الذي لا ينفع ويشح فيه الفعل والإنتاج، والسبب كله يعود للقدرة على تصديق ما لا يعقل. وهذا الأمر يشبه إلى حد كبير وضع السوق، فدائماً ما نجد في الأسواق أن البضائع السيئة ذات ترويج إعلاني كبير، بينما البضائع الحسنة ترويجها الإعلاني ضعيف، لأن الشيء الحسن لا يحتاج إلى تحسين صورته. نفس الحال ينطبق على الأفكار، فالأفكار الحسنة ليس لها مطبلين ولا مهللين، بينما الأفكار السيئة لها من يصرخ ويقسم بالله على ما يقول ويكذب لأنها بدون التطبيل ستموت في مهدها. هذه هي العلة التي يجهلها الناس. وهنا نكشف عن السؤال المهم والذي يتكرر في المجتمعات المتخلفة عندما يردد بعض الناس عن معجزات سمعوها وهي مخالفة للعقل فنقول لماذا نصدقهم؟
التعليقات