يُقال إن الاستبداد والفساد توأمان، إذا حضر أحدهما استدعى الآخر. فإذا حضر الاستبداد، استدعى الفساد ليؤمنه، وإذا جاء الفساد، طلب الاستبداد ليحميه. وعند الحديث عن العلاقة المتلازمة والوثيقة بين الاستبداد والفساد، يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد": "الاستبداد أصل لكل فساد"، ويضيف: "الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع". هذه الأقوال تختصر الكثير عن العلاقة التي تربط بين الاستبداد والفساد، والتي يمكن وصفها بعلاقة تلازم وتكامل، فهما كتوأم يرتبط كل منهما بالآخر وجوداً وعدماً. حيث يكون الاستبداد، يعيش ويزدهر الفساد، فهو البيئة الخصبة التي يترعرع فيها الفساد بكافة أشكاله. الاستبداد يفتح الأبواب واسعة للفساد عمداً لإغراء الطامعين وكسب الولاءات، ومن جهة أخرى، يشجع الفساد بما يوفّره من مكاسب مغرية على تعزيز النزوع للاستبداد لحماية نفسه واستمرار بقائه. كما يخلق شبكات معقدة من المصالح ومبادلات المنافع التي تشكّل قواعد اجتماعية لحماية النظام القائم لاحقاً.

لا يمكن الحديث عن متلازمة الاستبداد والفساد دون التطرق إلى هذه المتلازمة في دولنا العربية التي تطبع أغلبها بطابع استبدادي، والذي حوّل هذه الدول إلى دول غنائمية يسيطر عليها الحكام وبطانتهم. فالاستبداد لم يترك قطاعاً من قطاعات الأمة إلا وتسرّب إليه وأفسده، حتى أصبح الاستبداد في بعض دولنا العربية مظهراً من المظاهر العربية، بل إنه تطوّر ليصبح حالة عربية. وأصبح الفساد معه ثقافة وأمراً عادياً لا يثير الاستغراب، بل أصبح الفساد قاعدة بدل أن يكون استثناء، واحتلت الواسطة مكانة مرموقة للحصول على الوظائف بدلاً من مبدأ تكافؤ الفرص ومعايير العدالة الاجتماعية. وأصبحت الرشوة تُسمى "إكرامية". كان هذا الأمر أحد أسباب ثورات الشعوب العربية ضمن موجة الربيع العربي التي بدأت عام 2011، والتي طالت العديد من الدول العربية ذات الأنظمة الاستبدادية الفاسدة، والتي كان من أهم أهدافها القضاء على الاستبداد والفساد بعد أن أصبحا الأصل وليس الاستثناء. وتقارير منظمة الشفافية العالمية تؤكد هذه الحقيقة على مدار السنوات السابقة، وآخرها تقرير عام 2023 الذي وضع أكثر من نصف الدول العربية في مقدمة دول العالم الأكثر فساداً، وهي نفس الدول العربية التي شهدت ثورات الربيع العربي في موجتيه الأولى والثانية مثل سورية، اليمن، ليبيا، السودان، العراق، لبنان، مصر، الجزائر، تونس، بالإضافة إلى الصومال، جزر القمر، موريتانيا، وجيبوتي. أغلب حكام هذه الدول كانوا رموزاً للفساد، وتصرفوا بثروات أوطانهم كما لو كانت ملكاً لهم ولعائلاتهم، وساهموا في الإفساد وشراء الذمم لضمان الولاءات.

إقرأ أيضاً: الطاولة السداسية وحسابات موازنات ما بعد الانتخابات

إذن، الفساد في أغلب الدول العربية مرتبط بالاستبداد في متلازمة واحدة، وهي جزء من آلية الحكم، وممارسة السلطة، وتوريث السلطة والثروة للأبناء، وتداولهما في نفس النخبة المسيطرة والطبقة الحاكمة. لدرجة أن أغلب هذه الأنظمة انتقلت من مفهوم فساد الحكم إلى الحكم بالفساد، الذي يشير إلى أن الفساد أصبح هو الأصل وليس الاستثناء في ممارسة السلطة كجزء من منظومة السيطرة على الحكم وإدامة السيطرة وتوريث السلطة والثروة للأبناء. وهذا ما يحدث في الأنظمة العربية المستبدة، حيث يكون الفساد توأم الاستبداد الملتصق، بل ويكون "الاستبداد هو أصل كل فساد"، كما قال الكواكبي، وفسر ذلك بأن الاستبداد لا يستمر إلا في بيئة سياسية فاسدة، والفساد ينمو في ظل حكم الاستبداد، وبذلك تصبح العلاقة بين الفساد والاستبداد طردية؛ كلما زاد أحدهما، زاد الآخر والعكس صحيح.

إقرأ أيضاً: حراك السويداء رسائل لإسقاط النظام

ختاماً، يمكن القول إنَّ بين الفساد والاستبداد تلاقٍ في المعنى والتقاء في الممارسة. ومن هنا، كان المستبد دائماً عدو الحق وخصم الحقيقة، كما يرى الكواكبي. لذا، ستبقى متلازمة الاستبداد والفساد طاغية في عالمنا العربي ما دام الحكم يُورّث حتى في ما يُسمّى جمهوريات، وأبناء الرؤساء يحكمون ويُسيطرون أكثر من آبائهم. وستبقى هذه المتلازمة طاغية ما دام الزواج غير المقدّس بين السلطة ورجال الأعمال سائداً، وما دامت البرلمانات لا تُراقب ولا تُسائل، والصحافة ليست إلا أبواقاً للزعيم، والقضاء لا ينطق باسم العدالة والقانون، وما دامت أجهزة الأمن تتحكم بمصائر الناس، وتزج بهم في السجون خلافاً للقانون والعدالة، وتستخدم المعلومات لتشويه سمعتهم والتضييق عليهم، فطالما ظلت متلازمة الاستبداد والفساد ضاربة أطنابها في الأرض العربية، فلا يمكن أن تكون هناك حالة نهوض في الأمة، على عكس دول العالم الغربي التي لا يجد فيها الفساد جهات تحضنه أو تدافع عن أصحابه.