تبدأ روايات سليم بركات بتقاطعات غريبة بين الخيال والواقع، بين ما هو غير طبيعي وما هو طبيعي، بين البناء المنطقي على أسس ذهنية إنسانية وأحداث أشباح خارج المنطق. بعضها يهدف إلى تدمير مفاهيم موبوءة في المجتمع، وأخرى لا غاية واضحة لها، تبحث في اللامحدود، لواقع اجتماعي واقتصادي مدمر بطفرات فكرية تقتل الحقيقة، وتسيل إلى نهايات دون مستوى التوقعات، فتبدو الرواية كصرخة من على قمة جبل تنتهي بصدى باهت ضمن وديان النهاية.
من لم يقرأ عددًا من روايات سليم بركات، يكون قد خسر متعة فكرية فريدة. ولا أعني بذلك الأدب من حيث جمال اللغة وسلاسة السرد فقط، وهذه سمة من سماته المعروفة للجميع، بل أعني الذهنية والمدارك العصرية المبنية على الخيال الغريب في رواياته، حتى وإن كان يمثل بعضها امتدادًا لمدارس سابقة.
أتممت قراءة الرواية الرابعة للكاتب، قبل سنتين قرأت "سبايا شنكال"، وفي سنوات مضت قرأت "الجندب الحديدي"، والأخيرة لا تندرج ضمن ما أود التوقف عنده، وباختصار، لست هنا بصدد نقد متن وحبكة الروايات.
واليوم انتهيت من "فقهاء الظلام"، العنوان المثير لرواية غير منطقية لحياة اجتماعية منطقية، ودحض لواقع سياسي مفروض على أمة.
كما نعلم، معظم روايات سليم بركات، وهذه من أبرزها، صارخة بأسمائها. وهو الكاتب الغني عن التعريف والمتمكن من صياغتها، مثلما يضع الخيط الخفي لغاية رئيسة ما بين دفتي الكتاب. من ابتذال الإرهاب الإسلامي في رواية "سبايا شنكال"، إلى الربط الجدلي الطبيعي، والذي عكس لدي كقارئ كل أبعاد المجتمعين، بين شمال وجنوب كوردستان، تحت خلق التواصل الغريب بين دغل وأحراش قرية هلالية ومدينة نصيبين، في صفحة من صفحات نهايات الرواية. وربما أكون قد خلقت مقصدًا للكاتب غير ما ابتغاه الكاتب ذاته، وهو نفي الخط الحدودي السياسي الفاصل بينهما.
الروايات الأخيرة التي قرأتها تبدأ بطفرة فكرية غريبة شدتني إلى تناولها واحدة تلو الأخرى، رغم قراءتي لكتب أخرى مرافقة. لكن ظلت هي المسيطرة على ساحة مطالعاتي اليومية، وعلى الأغلب سأتابع قراءة روايات أخرى.
ما دفعني لكتابة هذا المقال هو الرابط الغريب المشترك بين الروايات التي قرأتها، والذي أثار استغرابي. رغم أن كل واحدة دفعتني، بل جرتني، لقلب الصفحات بسرعة، راكضًا خلف المشاهد والمفاهيم التي يطرحها على جوانب الحدث الرئيس الخارج عن المنطق والطبيعة البشرية، وكأنها تتمة أو أطراف تنبثق من جسم الطفرة الفكرية الغريبة. تابعت القصص الجانبية التي لا تخلو منها رواية، دون التمكن من بلوغ نتيجة حول غاية الكاتب من كتابة رواياته بهذه البنية الذهنية.
الاستغراب كان في السمة شبه المشتركة بين الروايات التي قرأتها، فكل واحدة تبدأ بحدث غريب شاذ، في زمان ومكان معروفين. والأغرب هو قدرته على خلق التقاطع الجميل بين الفكرة غير الطبيعية والواقع الطبيعي. لكن المؤسف أن الطفرة غالبًا ما تضمحل بعد الثلث الأول أو بعد منتصف الرواية، إلى درجة شعرت وكأن الكاتب القدير يفرغ من الأفكار بعد عرض كلية الطفرة، فيحاول الاستمرار بخلق قصص من العدم كتتمات للحدث الرئيس، يمدد بها الرواية، أو ينوه بأن روح الطفرة لا تزال حية وتفرض ذاتها. لكن في الحقيقة، هذه الانزياحات تدخل الرواية في التكرار، وتصبح السردية دون مستوى البداية، حتى عندما يحاول أن يخلق أفكارًا شاذة جديدة على نسق الأولى، لكنها تظهر باهتة أمام الفكرة الرئيسة.
في رواية "سبايا شنكال" كان بإمكانه التخلص من التكرار الذي أصبحت أدركه بعد كل مشهد. كنت أتوقع أنه سينقل الرواية بخيال متشعب إلى طفرة أغرب، ربما في روابي شنكال أو من عوالم خياله، وينهي الرواية بصدمة للقارئ. لكنه أنهاها بروتين بسيط، لم يكن على مستوى المتن وبعيدًا عن جمالية الحدث غير الطبيعي لوقائع إجرامية جرت في شنكال، رغم تقاطع الواقع مع الفكرة التي بنى عليها الرواية.
أما في رواية "فقهاء الظلام"، العنوان الصارخ لرواية مثيرة، حيث تبدأ الطفرة الذهنية المدهشة لكنها تضمحل في منتصف الرواية، ويصبح العنوان مناسبًا فقط للنصف الأول منها. كل ما جاء بعد ذلك كان قصصًا جانبية، حتى لو كانت على علاقة بما بنيت عليه الرواية. والطفرات غير المتوقعة لم تنقذ النصف الثاني من التراجع، ولم تكن على مستوى تكملة البناء الذي يمكن توقعه عند البدء بالرواية، ولا على مستوى خلق الدهشة لدى القارئ كالتي عرضها في البداية.
الفكرة الغريبة وطريقة سردها وجدت بأنها على سوية قد يتلقفها يومًا ما صناع السينما الخيالية في هوليوود. لكن تناثر الأفكار والقصص الجانبية التي أضعفت الفكرة الأساسية، خلق تناثرًا غير متناسق وقلل من قوة البناء الأولي. كما أن النهاية في رواياته، وخاصة في "سبايا شنكال" و"فقهاء الظلام"، متشابهان في المنهجية، حيث تكرار البداية مع بعض التعديلات الطفيفة. على النسق ذاته كان بإمكانه التوقف قبلها بصفحات أو حوادث، دون أن تتأثر الرواية. أسلوبه في وضع النهاية يعكس مفهومان: إما أن الكاتب يود أن يخلق بعدًا مخالفًا لكلاسيكية الرواية، فيربط النهاية بالمقدمة ويجعل منها حلقة بدون نهاية، أو أنه دون الإمكانية لوضع نهاية لبدايات رهيبة ذهنياً لرواياته.
إقرأ أيضاً: شعوبنا تخلق أنظمتها الفاسدة
لكن قوة السرد وجمالية اللغة والسلاسة في عرض الروايات والقصص، ووضع الكلمة في مكانها بدقة متناهية، وروعة الشرح باختصار جميل ممتع، ولا شك الطفرة التي تبدأ بها الروايات، غطت على التراجع الذي يحصل في المتن، وأعني ما بعد منتصف الرواية، المتراجع عن النصف الأول وحيث الصدمة التي ربما لا يتوقعها أي قارئ وما هو قادم عليه عندما يبدأ بقراءة الصفحات الأولى.
لا شك أن سليم بركات بإمكانه أن يخلق من اللا شيء شيئًا رائعًا بفضل قدرته الرهيبة في اللغة وغرابة الأفكار.
لا شك أن جمالية الروايات تجعلني أقرأها بدون توقف لساعات، دون ملل أو إحساس بالتعب. لكن أحيانًا أترك قراءة الرواية بسبب شطحات يقحمها في المتن تهبط من مستواها؛ أحيانًا أبعدني كقارئ من الانغماس الكلي مع مجريات الأحداث، وبذلك أضعف جمالية بدايات الرواية.
التعليقات