قراءة في التلاعب التركي بمصير الشعوب السورية

المثل الشعبي القائل: "يقتل القتيل ويمشي بجنازته"، يعبر بوضوح عما تفعله تركيا اليوم. فهي تدعم المعارضة السورية بوجهها الإسلامي التكفيري، وتعزز المنظمات الإرهابية الإسلامية، مع تعميق الإسلام السياسي المناهض للقوميتين العربية والكوردية، بينما تمجد القومية التركية تحت عباءة "الدعم الإسلامي". هذا النهج يعكس منهجية مشابهة لما يفعله أئمة ولاية الفقيه، الذين نجحوا في التلاعب بوعي شرائح واسعة من شعوب الشرق الأوسط.

ورغم النجاحات الاقتصادية والعسكرية التي حققتها تركيا خلال العقود الثلاثة الماضية، إلا أنها تسير نحو مسار تآكلي غير مرئي يهددها بالضياع، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، بل أيضاً على الصعيدين الجيوسياسي والقومي الإسلامي، أو ما يعرف بالإسلام السياسي. فكما تم في بدايات القرن الماضي القضاء على الإمبراطورية العثمانية المختبئة تحت عباءة الخلافة، يُرجح أن يُعاد إحياء الثورة العربية ضد الدولة التركية، التي تُخفي عنصريتها تحت عباءة الأردوغانية الإسلامية.

المثير للسخرية أنَّ المنظمات السورية الإسلامية المعارضة تبدو غير واعية للمصير الذي تُقاد إليه، حيث تسهم في تدمير الشعب السوري، وتقويض القوميتين العربية والكوردية لصالح القومية التركية. عقولهم التي تم غسلها تحتاج إلى صدمات ليدركوا حجم الدمار الذي يخلفونه، والذي لا يقل خطورة عما ارتكبته سلطة بشار الأسد المجرمة.

ما يقوم به أردوغان اليوم، بتحريك أدواته الإقليمية ومرتزقته والمنظمات السورية المعارضة المُدرجة على قوائم الإرهاب، يُسخَّر تحت شعارات الرايات الإسلامية لتدمير ما تبقى من سوريا كوطن، ولتقويض العرب كقومية. كل ذلك يندرج ضمن الخدمات المجانية التي تقدمها أنقرة للقوى الكبرى، وأردوغان للقومية التركية. ويهدف هذا النهج في النهاية إلى إنقاذ تركيا من شبح التفكك والتقسيم.

في البعد السياسي، الذي يسخره أردوغان لتحقيق غاياته الرئيسية، أصرّت تركيا تحت عنوان حماية أمنها القومي، على مطلب واضح في الصفقة التي دارت خلف الكواليس: مقابل تحريك أدواتها التكفيرية والإرهابية ضد المليشيات الإيرانية والنظام، السماح لها كموالي وعلوج، ومرتزقة في المفهوم العصري، بمهاجمة قوات قسد في مناطق غرب الفرات، والسيطرة على حي الشيخ مقصود والأشرفية والمناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة قسد. ولتنفيذ هذا الهدف، يعتمد أردوغان على مرتزقته المعروفين بـ"الجيش الوطني الحر"، مسخِّرًا الخطاب الديني والإسلام السياسي العربي لخدمة القومية التركية.

هذا التوظيف السياسي يتجاوز المبادئ الأخلاقية والدينية، حيث يطعن في عمق الإسلام السياسي العربي، ويتناقض مع نصوص القرآن الكريم، من خلال استخدام الجماعات المسلحة كأدوات تُعمّق المصالح التركية القومية المستترة خلف شعارات الإسلام العثماني. هذا الإسلام الذي طالما أظهر ازدراءً عميقًا للعرب، إلى درجة شاعت فيها في بعض الأوساط التركية عبارات سخرية تزعم أن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، كان يتحدث التركية أو أنه من أصول تركية، في تعبير صريح عن رفضهم لفكرة أن يكون رسول الإسلام عربيًّا.

أردوغان، في سعيه لتحقيق طموحاته الجيوسياسية، جاب العالم وتنازل عن الكثير من قيمه المعلنة، ساعيًا للحصول على دعم كلٍّ من الولايات المتحدة وروسيا لاحتلال غربي كوردستان. ولم يتوانَ في التخلي عن حلفائه الإسلاميين مثل حركة حماس، وعن الالتزامات السابقة في اتفاقيات سوتشي وأستانا. ولتمرير أجندته بدبلوماسية ماكرة، صرّح بعدم مسؤوليته عن أفعال “هيئة تحرير الشام”، رغم أن الجميع يدرك أن الفصائل السورية المعارضة، عسكريًّا وسياسيًّا، لا تتحرك إلا بأوامر تركية.

لقد تعمّدت تركيا تعميق تطرّف تلك الفصائل بمنهجية الإسلام التكفيري، مما جعلها تنظر إلى أردوغان كقائد إسلامي، بل وحتى خليفة. ومن المعروف عالميًّا كيف استغلت تركيا هذه الجماعات وقدمت خدمات جليلة لتنظيم داعش، ليس فقط من منطلق ديني، ولكن بهدف تدمير القوميتين العربية والكوردية، بما يخدم أهدافها القومية والجيوسياسية على المدى البعيد.

المنطقة الكوردية في شرق الفرات تواجه خطراً مشابهاً لما حدث لعفرين، والصمت الأميركي حتى الآن لا ينبئ بالخير. تركيا، التي لم تحصل بعد على موافقة واضحة، تغامر في ظل المرحلة الانتقالية للبيت الأبيض. هذا الصمت الأميركي قد يكلف الولايات المتحدة على مستوى أمن شعبها وأوروبا في المستقبل القريب، تماماً كما ستدفع تركيا الثمن في مرحلة ربما أقرب. الخطر لا يقتصر على المنظمات الحالية فحسب، بل يمتد إلى ما ستنتجه هذه الأحداث من فروع ومنظمات أكثر تنظيماً، وأكثر تشدداً إسلامياً ووعياً بل عنصريا قومياً عربياً.

إقرأ أيضاً: صراع الظل بين إيران وإسرائيل

في الجانب الميداني، من المحتمل أن تبدأ تركيا بعمليات إعادة النازحين السوريين إلى المناطق التي سيطرت عليها هيئة تحرير الشام تحت شعار "العودة الطوعية"، وهي دعاية بعيدة كل البعد عن الواقع. فالوضع الإنساني في سوريا بشكل عام ينبذ فكرة العودة الطوعية كما هو معروف. ما يفعله أردوغان في هذا السياق ليس سوى إرسال هؤلاء النازحين إلى الهلاك، بهدف تمرير أجنداته وتحقيق المصالح التركية القومية على حساب ما يدعيه من أخوة إسلامية.

المسار الذي تسلكه تركيا مليء بالمخاطر، وأردوغان يتجاهل التهديدات المدمرة التي قد تواجه تركيا في العقود المقبلة. فهو يرفض الاعتراف بأن هذه الفصائل التي قام بتجنيدها ورعايتها ستنقلب عليه مستقبلاً، سواء كان هو في السلطة أو على تركيا من بعده. هذا التحول متوقع من منطلق الصراع القومي العروبي ضد الهيمنة التركية، التي طالما أظهرت ازدراءً للعرب.

استغلال أردوغان للإسلام لخدمة القومية التركية لن يمر دون عواقب كارثية. فالمفاهيم التي يزرعها بين منظمات المعارضة التكفيرية السورية ستنكشف يوماً ما، وتُظهر الخلفيات الحقيقية لهذه التحركات. كل من درس الإسلام السياسي يدرك أن هذا الدين غالباً ما استُخدم لخدمة القوميات بشكل كبير. تاريخ الإمبراطوريات الإسلامية على مدار 14 قرناً يوضح كيف كانت تلك الإمبراطوريات تخدم شعوبها على حساب الأمة الإسلامية.

إقرأ أيضاً: قراءة في ظلال الصراع الإقليمي

الإمبراطوريتان الصفوية والعثمانية هما مثالان بارزان لهذا التوجه، واليوم نجد الدولتين الإيرانية والتركية تحت حكم حزبين يدعيان الإسلام، بينما تتقدم القومية على كل أولوياتهما. العلاقات بينهما في إطار مؤتمرات أستانة وسوتشي وغيرها مثال واضح على هذا النهج، حيث تم تناسي تلك الاتفاقيات عندما تعارضت مع المصالح القومية.

تركيا وإيران دعمتا أو أنشأتا أبشع المنظمات الإسلامية الإرهابية في العصر الحديث، لا تقل عما فعلته الدول الكبرى، لتحقيق مصالحهما القومية. خدمات المنظمات المعارضة السورية الإسلامية لتركيا، والميليشيات السورية واللبنانية والعراقية الشيعية لإيران، باتت واضحة للعيان، حيث يتم تسخيرهم كموالي ومرتزقة وعلوج تحت عباءة الإسلام، لتمرير أجندات القوميتين التركية والفارسية.

من شبه المؤكد أن هذه المنظمات والميليشيات ستستفيق يوماً، وستدرك كيف كانت تُستغل كأدوات رخيصة وعبيد في خدمة نزعات قومية عنصرية، مختبئة خلف الدين أو المذهب، سواء السني أو الشيعي. ستتذكر أيضاً كيف كان أجداد أسيادهم الحاليين في تركيا وإيران مجرد موالين للإمبراطورية العربية الإسلامية خلال عصر الخلافات، وكيف تحولت الأدوار اليوم ليصبحوا أدوات تدعم نزعات القومية التركية والفارسية، ولربما هو ثأر غير مباشر للماضي السحيق.

إقرأ أيضاً: فلسفة الصمود في مواجهة الطغيان التركي

على المدى القريب، قد يبدو أن أردوغان يحقق انتصارات سياسية وعسكرية، ويغلب معظم خصومه، كما أن أئمة ولاية الفقيه الفرس يحققون مكاسب مماثلة. إلا أن مصيرهما سيكون، على الأرجح، كارثياً. نهايتهما ستتجسد في التفتت والانقسام وتدمير ما تم بناؤه. منهجية تسخير الإسلام لخدمة القومية وتجنيد المرتزقة تحت الرايات الدينية ستتحول إلى نقمة كبرى عليهما، وستفضي إلى انهيار الدولتين التركية والإيرانية.

المذنبون في هذه المأساة ليسوا الشعوب التركية أو الفارسية، بل القيادات التي أسست هذا النهج المدمر. أردوغان وحزبه الإسلامي السياسي، وأئمة ولاية الفقيه ومن حولهم، يتحملون المسؤولية الأكبر. ولا يُستبعد أن يكون مصير الأتراك والفرس مرعباً، ولن يقل كارثية عما يعانيه اليوم شعوب منطقة الشرق الأوسط من العرب والكورد وغيرهم.