لطالما كانت كوردستان مسرحًا لصراعات فرضها التاريخ، حيث واجه شعبها سياسات ممنهجة استهدفت وجوده عبر محاولات التغيير الديموغرافي والاستيلاء على أراضيه وممتلكاته. ولم تكن هذه الإجراءات مجرد حوادث عابرة، بل جاءت ضمن منظومة استراتيجية مدروسة تهدف إلى اقتلاع الكورد من جذورهم وتشويه ملامح هويتهم في أرضهم التاريخية. واليوم، بينما يسعى العراق لإصلاح آثار تلك السياسات القمعية وإنهاء إرث الماضي، نشهد في كركوك تكرارًا لنفس الأساليب القديمة والسياسات القمعية، مما يثير تساؤلات حول الجهات التي تقف وراء هذه الانتهاكات وأهدافها وأسباب استمرار التمييز ضد مكون أساسي من مكونات البلاد.
ففي مشهد يعيد إلى الأذهان ذكريات الظلم والاضطهاد، شهدت محافظة كركوك فصلًا جديدًا من المعاناة، حيث تم منع المزارعين الكورد من العودة إلى أراضيهم التي صودرت منهم قسرًا. هذه الخطوة، التي تحمل في طياتها أصداء الجرائم التي تعرض لها أبناء شعب كوردستان في العقود الماضية، لا تمثل سوى استمرار لسياسات شوفينية تهدف إلى فرض واقع جديد يتجاهل الحقوق التاريخية للسكان الأصليين ويهدد السلم الاجتماعي والسياسي في العراق.
وفي الوقت الذي يؤكد فيه الدستور العراقي على مبدأ العدالة والمساواة، نجد أن الجيش العراقي لا يزال يُستخدم كأداة لفرض قرارات تعسفية جائرة ضد المزارعين الكورد في كركوك، وآخرها ما جرى في عدد من القرى التابعة لناحية سركران. إنَّ منع الكورد من العودة إلى أراضيهم لا يشكل فقط انتهاكًا صارخًا لحقوقهم الأساسية المشروعة، بل يمثل أيضًا خرقًا للمواد الدستورية التي تنص على حماية جميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم القومية والدينية.
ويأتي هذا التصعيد في وقت خطا فيه مجلس النواب العراقي خطوة إيجابية نحو تصحيح أخطاء الماضي وإنهاء إرث السياسات التمييزية عبر التصويت على قانون يعيد الأراضي المصادرة إلى أصحابها الشرعيين، فيما نجد أن بعض الجهات ما زالت تعيق تنفيذ هذه الإصلاحات، مما يثير شكوكًا عميقة حول التزام الدولة بمبادئ العدالة والإنصاف. إنَّ استمرار هذه السياسات الإقصائية لا يهدد فقط سبل عيش المزارعين الكورد، بل يحمل تداعيات خطيرة على التماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي، ويلقي بظلال قاتمة على مستقبل التعايش السلمي في العراق. فهذه الممارسات تسهم في تأجيج الانقسامات العرقية والطائفية وتعيد إلى الواجهة مخاوف إحياء الصراعات التي كان يُفترض أن تُحسم من خلال الحلول القانونية والدستورية.
كما أنَّ استخدام الجيش كأداة لفرض التمييز وقمع حقوق المواطنين بدلًا من حماية أمنهم، يشكل ضربة قوية لثقة الشعب بالمؤسسات الحكومية، ويخلق سابقة خطيرة في استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهداف سياسية ضيقة، وهو ما يتعارض تمامًا مع أسس الدولة المدنية الحديثة.
إنَّ ما يحدث في كركوك لا يجب أن يُنظر إليه كقضية محلية فحسب، بل هو اختبار لمدى التزام الدولة العراقية بالمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وعليه، فإن الحكومة الاتحادية مطالبة بالتحرك العاجل لإيقاف هذه الانتهاكات وضمان إعادة الحقوق إلى أصحابها دون تسويف أو مماطلة، من أجل عودة المزارعين الكورد إلى أراضيهم دون قيود. كما أن على القوى السياسية والمنظمات المدنية، لا سيما الحقوقية منها والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان، واجب الضغط على السلطات العراقية لوضع حد لهذه التجاوزات وضمان عدم تكرار مثل هذه الانتهاكات التي تهدد السلم والاستقرار في البلاد.
إنَّ ما يحدث اليوم في كركوك ليس مجرد نزاع إداري حول ملكية الأراضي، بل هو صراع بين قيم العدالة والتعايش والمواطنة من جهة، وممارسات التمييز والإقصاء من جهة أخرى. ويعتبر هذا الملف اختبارًا حقيقيًا لمدى قدرة العراق على تجاوز إرث الماضي وبناء دولة تحترم حقوق جميع مواطنيها بغض النظر عن انتماءاتهم القومية والدينية. لذا، فإن أي تأخير في معالجة هذه القضية قد يؤدي إلى نتائج لا تُحمد عقباها، ليس فقط على المزارعين الكورد، بل قد يهدد الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار والتقدم في العراق بأكمله. إن إعادة الحقوق لأصحابها وإنهاء سياسات القمع ليست مجرد ضرورة قانونية، بل خطوة أساسية نحو بناء دولة أكثر عدالة وإنصافًا، دولة لا تعيد إنتاج أخطاء الماضي بل تتطلع إلى مستقبل يسوده السلام والازدهار للجميع.
التعليقات