في النصف الأول من القرن الماضي، ومع بداية تأسيس الدولة العراقية، بدأت تظهر حركة تجارية وعلمية وصناعية داخل البلد، فازدهرت الصناعة والتجارة والفن والسينما والأسواق، وكان معظم أشخاص ونجوم هذا الازدهار السريع هم من اليهود العراقيين. وكالعادة، يصبح الناجح داخل المجتمع الفاشل محط أنظار الحاسدين؛ فعندما حانت اللحظة التي قررت فيها بعض الجهات السياسية مضايقة يهود العراق كردة فعل على ما كان يفعله اليهود داخل فلسطين، ظهر الحقد المخفي عند الناس، فهاجموا بيوت ومحلات اليهود في ليل معتم، وكأنَّ اليهود العراقيين هم من قام بإيذاء الفلسطينيين وكأنهم لم يكونوا عراقيين، ولم يكونوا الأبناء الأصليين لهذا البلد، ولم يكونوا هم من وضع اللبنة الأولى لبناء العراق الجديد، فشردوهم وسرقوا أموالهم واستولوا على محلاتهم وبيوتهم.
لكن بعدها، شعر العراقيون بالندم لأنهم غدروا بمن أضفى على حياتهم الروح الجديدة، وعرفوا بأنَّ اليهود كانوا شكلاً من أشكال العراق الجميل، وأحسوا بأنَّ العراق فقد فعلاً ركناً من أركان جماله، وبقي الفراغ الذي تركه اليهود المرحلين إلى إسرائيل يؤلم العراقيين لحد يومنا هذا، لأنه ما من حق لأحد أن يهجّر ابن البلد مهما كانت الأعذار.
إقرأ أيضاً: خفايا صراعات المنطقة
ورغم ما تعرض له اليهود من ظلم، إلا إنهم وجدوا وطناً يحتضنهم ويعيد لهم كرامتهم ويعيد لهم حقوقهم، فخفف عنهم ألم الغدر، حيث استقبلتهم إسرائيل بكل ترحاب، لكن مهما يكن من أمر، يبقى بلدهم الذي نشأوا وعاشوا فيه هو الأجمل في مخيلتهم.
إذاً، السر الأعمق لغدر بعض العراقيين باليهود هو الغيرة والحسد لسرعة صعود نجومية اليهود في الحياة السياسية والاقتصادية والتجارية والعلمية والرياضية والفنية للعراق الجديد بعد الاستقلال.
لم تمضِ سوى بضع سنوات على ترحيل يهود العراق حتى أصبح الكورد الفيلية هم الذين يسدون الفراغ الذي عانى منه العراق بغياب اليهود، فأصبح التجار الفيلية يتحكمون بالتجارة والصناعة، وأصبح الكورد الفيلية يتحكمون بكل مفاصل الحياة والتطور في المجتمع.
إقرأ أيضاً: أطفال ضائعون
ومما تفوق به الكورد الفيلية على اليهود هو وجود طبقة المثقفين الفيلية الذين تسيدوا الساحة الثقافية العراقية لعقدين أو ثلاثة، وأصبحت بصمتهم واضحة في كل مجال ثقافي وأدبي وعلمي واقتصادي.
وبما أنَّ الكورد الفيلية لم يكونوا أقلية قليلة، بل كانوا أقلية مجتمعية كبيرة، وجميع أفرادها لهم نشاط اجتماعي ملموس، وحتى نساؤهم كن وجه العراق النسوي في الثقافة والفن والرياضة والمعرفة، وحتى في السياسة، فكانت عملية التخلص منهم بنفس طريقة التخلص من اليهود العراقيين صعبة جداً.
وكيف يتم التخلص منهم؟ وإلى أي بلد يتم ترحيلهم؟ هذه أسئلة كانت تراود الجهات التي تسعى لإيذاء المجتمع العراقي من خلال بتر جزء جميل منه، مثلما فعلوا مع اليهود.
وبعد مخاض عسير من التفكير، وجدوا إيران البلد المناسب لطرد الفيلية إليه، نظراً لوجود بعض الروابط بين فيلية العراق وفيلية إيران، فبدأت الحملة، ولكن هذه المرة من قبل السلطات الحاكمة، ثم تدخل الحاقدون الشامتون ليستولوا على بيوت وممتلكات الكورد الفيلية بنفس طريقة السيطرة على ممتلكات اليهود.
إقرأ أيضاً: كل ما يفعلانه لن يجدي نفعًا
كان من حسن حظ العراق أنَّ حملات التهجير والقتل لم تشمل جميع الكورد الفيلية، وإلا لأصاب العراق عورة لم يسترها شيء بعدها أبداً، فشملت عملية التهجير جزءاً مهماً فعالاً من الكورد الفيلية، وتم تغييب وقتل عشرات الآلاف من شباب الفيلية الذين لم تُعرف مقابرهم وطريقة قتلهم إلى الآن.
بهذا السلوك الظالم يكون قد تحقق الهدف وهو إبعاد الفيلية عن الحياة السياسية والثقافية والتجارية، والتخلص من تأثيرهم المباشر.
التخلص من يهود العراق والتخلص من شريحة مهمة من الكورد الفيلية أضعف العراق كثيراً وأعاده عقوداً إلى الوراء، لأن يهود العراق وفيلية العراق هم سماد العراق الحديث، أينما وجدوا تنفست بهم الحياة، ولحد اللحظة، للأسف الشديد، هناك ضيق نفس شديد عند بعض المحسوبين على العراق، يحاولون التقليل من شأن الكورد الفيلية، ويحاولون إبعادهم عن التأثير بالحياة السياسية والثقافية، ويتربصون بهم، ويضيقون عليهم في استرداد حقوقهم.
إقرأ أيضاً: ما هو الإسلام السياسي؟
فهؤلاء، حتى لو تخلصوا من اليهود، وتخلصوا من الفيلية، وتخلصوا من الإيزيدية، وتخلصوا من المسيحيين، فإنهم لن يتوقفوا عند هذا الحد، سيعملون على التخلص من بعضهم بعضاً خطوة بعد خطوة، لأنَّ في قلوبهم مرض لم ولن يُشفوا منه، وكل مآسي وويلات هذا البلد كانت من صنع أيادي هذه الفئة المحسوبة على العراق والمدعومين من خارج الحدود.
متى ما عادت الحقوق الطبيعية لجميع المظلومين من أبناء هذا البلد، تكون قد عادت الحياة والروح للبلد، بغير ذلك يبقى العراق عليلاً يجر أذيال الخيبة، ولن تقوم له قائمة.
التعليقات