لا أتحدث هنا عن الفساد فى العراق، فقد شبعنا من هذا الحديث لحد التخمة، ولكنى سأتحدث عن المليارات التى ضاعت والتى ستضيع اذا لم تلتفت الحكومة وتضع حدا لتبذير الأموال فى استيراد بضائع فاسدة وايادي عاملة مشلولة من وراء الحدود.
قرأت حديثا خبرا عن استيراد الحكومة العراقية لبعض التجهيزات العسكرية الرديئة الصنع من دول العالم الثالث، وكان فى الامكان استيراد نفس المواد من الدول المتقدمة بنفس الأسعارأو أكثر بقليل من التى دفعتها للمجهزين من دول العالم الثالث. وذكرالخبر مثلا لذلك استيراد مركبات (همر) العسكرية الأمريكية الأصل ولكنها مصنعة فى مصر، بنما مثيلاتها المصنعة فى أمريكا أرخص وأجود وأكثر أمانا للجنود الذين يستعملونها. وقبل ذلك استوردت الدولة طائرات سمتية غير صالحة من بولونيا، على ما أذكر، وأهدرت ملايين الدولارات.
أنا لا أعرف كثيرا عن تلك المركبات والطائرات ولا عن أسعارها، ولكن المقالة ذكرتنى بحرب عام 1948 بين جيوش ست دول عربية وجيش اسرائيلي صغير ولكنه مجهز بأحدث الأسلحة وجنوده دربوا أحسن تدريب، فانهزمت جيوش (الأصفار الستة) كما سماها الغربيون فى وقتها. وللهزيمة تلك أسباب كثيرة لا مجال لتفصيلها هنا، ولكنى واثق كل الثقة من أن رداءة الأسلحة التى تسلحت بها الجيوش العربية كانت من أهم أسباب الهزيمة. والذين عاشوا تلك الأحداث المأساوية لا بد أنهم يتذكرون الأسلحة الفاسدة التى استوردتها مصر لجيشها على عهد الملك فاروق. وفى العراق أيضا نفذ حكم الاعدام بالتاجر اليهودي العراقي (عدس) الذى أدانته المحكمة بتهمة شراء أسلحة فاسدة لوزارة الدفاع العراقية فى نهاية الأربعينات أو بداية الخمسينات على ما أذكر.
من خبرتى العملية الطويلة فى التجارة، فان الاستيراد وخاصة استيراد الأسلحة يجب أن يتم من قبل وزارة الدفاع فقط وبعد استشارة جهات وأشخاص كفوئين وطنيين نزيهين، وبعكسه تخسرالدولة ليس الأموال فقط بل الأرواح أيضا وهي الأهم طبعا. ويجب أن تستورد من المناشىء والمصانع المعروفة عالميا، فانه لا يمكن أن نشترى شيئا مصنوعا فى الصومال مثلا لأنه أرخص من مثيله فى ألمانيا أو فرنسا أو بريطانيا او الولايات المتحدة، او لأن تلك الدولة عربية أو مسلمة.
بعد سقوط الحكم الملكي، استوردت الدولة بدالة تلفونية من الاتحاد السوفييتي ونصبت بالقرب من ساحة النهضة فى بغداد الشرقية، وبعد تشغيلها اكتشف الناس انه عندما تتكاثف الغيوم فى سماء بغداد، تبدا التلفونات بالحشرجة، وتسكت سكوت الأموات بعد هطول المطر. واستوردنا حينذاك أيضا سيارات سوفييتية أرهقت شرطة المرور الذين كانوا فى أكثر الأحيان يضطرون الى دفعها عندما تتوقف فجأة فى الشوارع مزدحمة. واستوردت مديرية اسالة الماء مكائن لحفر خناق لأنابيب المياه، تعطلت بعد اسبوع من استعمالها. وقد ذكر لى مدير الاسالة العام فى وقتها بأنه يخشى أن يتقدم بشكوى على الشركة الروسية التى صدرتها الى العراق فتحصل له مشاكل بسبب سيطرة الشيوعيين على الأوضاع آنذاك!.
أما عن استيراد الأيدي العاملة، فهذه مسألة لا تقل أهمية عن استيراد البضائع والمكائن والمعدات، اذ يجب أن تكون هناك ضوابط محددة مدروسة من جميع الجهات المختصة فبل السماح بدخولها الى العراق. ان الأيدي العاطلة العراقية كثيرة جدا حاليا، وتحتاج الى التدريب باشراف خبراء ومعلمين اختصاصيين. وأن تمنح الدولة للمتدربين اثناء تدريبهم نصف الراتب المخصص للمتخرجين عندما يتم تخرجهم تشجيعا لهم على الاستمرار فى التدرب.
ولا ريب اننا سنحتاج الى ايدى عاملة أجنبية، ولكن لا يجب أن نكرر ما فعله البعثيون حينما جلبوا للعراق ملايين المصريين على أساس أنهم عمال او فلاحين، ولكن أكثرهم فى الواقع اشتغلوا بالبيع والشراء، وأول شيء كانوا يفعلونه هو شراء الكهربائيات من السوق الحرة بالعملة الأجنبية المخصصة لكل قادم الى العراق، وباعوها على الأرصفة فى شارع الرشيد والشورجة، فزاحموا بذلك العراقيين الذين يدفعون بدلات ايجار كبيرة الى ملاكي الدكاكين.
أخبرنى أحد أصدقائي وهو من الأطباء المعروفين قائلا أن الأطباء بدأوا يكتشفون اصابات بمرض البلهارزيا (البول الدموي)، ظهرت بعد وصول الفلاحين المصريين الى العراق، بعد أن كان قد قضي على هذا المرض الخبيث فى العراق واختفى منذ ما لايقل عن ثلاثة عقود من الزمن. ووجدوا أن الفلاحين المصريين يتبولون فى ترع المياه والأنهار، فتنتقل بيوض المرض الى الفلاحين العراقيين. لعل عشاق المطرب عبد الحليم حافظ يتذكرون أنه مات بهذا المرض الذى كان (وربما لا يزال) يفتك بآلاف المصريين كل عام.
كان البعثيون قد فتحوا العراق لكل من هب ودب، وكان العرب يدخلون الى العراق بدون تأشيرة، ولم تفرض أية شروط صحية على الداخلين لغرض الاقامة والعمل. وفى فترة متأخرة من حكمهم فرضوا على القادمين فحص الدم للتأكد من عدم اصابتهم بمرض (الأيدز)، فكان أكثر القادمين يدفعون الرشاوى على الحدود فيعفون من الفحص. أما من لا يدفع الرشوة، فان عينة من دمه ترسل الى المختبرات فى بغداد، وبعد وصول القادم الى بغداد بأسبوعين أو ثلاثة قد يحصل على شهادة سلامته من (الأيدز)، ولكنه ان كان مصابا به ولم (يتعفف) فى تلك الفترة من الانتظاريمكن تصور الكارثة التى يجلبها على العراقيين الذين يتصل بهم.
ولقد تعددت المرات التى استورد فيها العراق أدوية منتهية المفعول، وأغذية فاسدة، وحنطة ملوثة ببرادة الحديد. ان مراقبة الأغذية والأدوية المستوردة من قبل القطاعين الخاص والعام يجب أن تتم بكل دقة وعناية، ومعاقبة المفسدين بأشد العقوبات. ويمكننا الاستعانة بالألمان فى هذا المجال، فهم يضعون أقسى الشروط على السماح لدخول الأغذية المستوردة الى بلادهم.
وذكرت الصحف مؤخرا بأن الحكومة العراقية عازمة على جلب خبراء من مصرللمساعدة فى اعادة اعمار العراق!!، ولاأدري لماذا لا يجلبون خبراء من الصومال وأريتيريا أيضا؟! لم يسمع أحد بأن مصر تملك خبراء بالاعمار والا لماذا تجد البطالة متفشية فيها، وعمارات تتداعى من وقت لآخر، وشوارع القاهرة خاصة المزدحمة بفضاعة ولا يتمكنون من معالجتها أو معالجة الكثير من المشاكل التى تواجه المواطن المصري.
ولا يملك المرء الا أن يتساءل هل أن الفقير يطلب المشورة من فقيرمثله ليرشده الى طريق الغنى؟ أو الأصلع يطلب دواء لصلعته من طبيب أصلع مثله؟
وقرأت فى هذه الأيام أيضا بأن الحكومة العراقية تفاوض الحكومة الفلبينية للسماح لليد العاملةالفيلبينة بالعمل فى العراق. لم يشتهر من الفيليبينيين الذين يعملون خارج بلادهم سوى الممرضات، فهم من أشهر وأمهر الممرضات فى العالم، وحالما تتخرج الممرضة الفيلبينية فى مدارس التمريض حتى تسعى للحصول على تأشيرة الدخول الى الدول الغنية التى تتسابق على استقدامهن، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وكندا والسعودية والامارات.
ان استقدام الأجانب واستيراد المصنوعات والأجهزة والمعدات والمنتوجات الأجنبية على اختلاف أنواعها يكلف العراق المليارات من الدولارات سنويا، والعراق فى الوضع الاقتصادي العالمي المتدهورالحالي بحاجة الى كل دينار ودولار لاعادة اعماره وتلبية متطلبات شعبه ليحيا حياة حرة كريمة.
عاطف العزي
التعليقات