حماقات السياسة الأمريكية في العراق طيلة سنوات الإحتلال الخمس تبقى أكبر العلامات الفارقة في الوضع العراقي المتدهور، فالأمر لا يتعلق بحالة غباء أو كسل أو تهاون قد إنتابت الإدارة الأميركية لترتكب كل هذا الكم الهائل من الأخطاء و الخطايا بل و الجرائم التاريخية!
بل أن الأمر برمته أبعد من ذاك بكثير ليدخل ضمن سياقات التخريب المنهجي للعراق و لعموم الشرق الأوسط بنوايا مبيتة و خلفيات واضة لا يمكن تغطيتها أو التستر عليها بأعذار واهية!، فالولايات المتحدة القوة الكونية الأعظم في عالم اليوم و التي صنعت عالم ما بعد الخرب الكونية الثالثة و أسقطت الدب الروسي و أسرت التنين الصيني ليست من السذاجة بمكان لتعجز عن معالجة الحالة في العراق.؟ و هي حالة متردية بالكامل و تفصح عن خلل فظيع و فشل كارثي في التعامل مع تداعيات عراق ما بعد الإحتلال، فليس سرا أن النظام العراقي السابق قد أختير ليكون الهدف المركزي في الحملة ضد الإرهاب كما أختير العراق و شعبه ليكونا العينة المختبرية التي تجرب فيها وصفات العلاج الديمقراطية الحديثة المعدة للتصدير للشرق الأوسط و التي إستقرت على أعتاب البوابة العراقية وحدها و ترفض التصدير أو التجريب في مواقع أخرى كانت مرشحة، فالنظام السوري مثلا و هو الشبيه الموضوعي و التاريخي للنظام العراقي السابق قد أفلت من حبل المشنقة الأمريكي!!
أما النظام الليبي فقد نجح في تجاوز مرحلة الخطر بل و بلغ مبلغا صعبا و متقدما في إعادة التسويق و الإنسجام مع الأوضاع الدولية الجديدة بعد تقديم بعض التنازلات التي سبق لنظام صدام أن قدم ما هو أكثر منها بكثير!! و مع ذلك لم تشفع له كل تلك التنازلات و التراجعات و الرضا بالمقسوم و الكشف عن كل شيء و أي شيء...! أما نظام إيران وهو أحد أركان ( محور الشر ) الأمريكي فيبدو جليا أن تعامل الإدارة الأميركية معه لن يصل أبدا لمستوى تعاملها مع نظام صدام رغم لهجة التحدي الصارخة و الأساليب الهجومية للنظام الإيراني سواءا في الساحتين العراقية أو اللبنانية و أماكن أخرى ! إلا أنه قد بات واضحا بعد التطبيع الغربي مع النظام السوري بأن هنالك ظلالا إيرانية تقف خلف الكواليس و أن هنالك تبادل كبير للرسائل التطمينية و الدبلوماسية مما سيضع خيار الحرب الإنفجارية في الخليج العربي تحت مظلة التأجيل اللامحدود، في العراق تبدو الحالة مختلفة بالكامل، فالحروب الداخلية بين فرقاء السياسة من الخصوم و الأنصار على حد سواءا قد بلغت معدلا مرعبا في ظل هيمنة الميليشيات و بعضها حكومي محض على الشارع، و في ظل إستمرار عمليات الإغتيال للمثقفين و الكوادر و السياسيين و كبار الموظفين و غموض الجهات التي تقف خلف تلك الإغتيالات التي يبدو أنها قد أضحت صناعة عراقية محضة و تجارة غير قابلة للكساد في ظل ملفات هائلة من مستحقات النظام السابق و الحالي على حد سواء و في ظل سيوف التشهير و التهديد التي لا تنقطع، فليس سرا إن إستهداف البعثيين السابقين في العراق كان أحد عناوين مرحلة الإغتيالات المستمرة فصولا، إلا أن تلك الإغتيالات قد فقدت أي معنى لها في ظل وجود بعثي حقيقي بين أروقة النظام الحالي نفسه، فالجهاز البعثي السابق لم ينقرض أبدا بل إختفى و توارى و أرتدى حللا أخرى و تزيا بأزياء جديدة بعضها ديني و طائفي، كما أن كبار قادة النظام السابقين هم اليوم في الأسر الأمريكي إلا فيما ندر من حالات ! فلمن توجه رصاصات الإغتيال إذن.؟ و من هو المستفيد من إستمرار حملات ما يسمى بإجتثاث البعث رغم تغيير التسمية الرسمية لذلك لقانون العدالة و المساءلة!!، لقد تحول الأمر برمته لمهزلة في أن يقتل إنسان على قارعة الطريق و السبب المعلن هو كونه بعثيا..! ترى أية حماقة قد أوصل المجرمون العراق إليها.؟ دلوني بربكم على عراقي واحد و حتى بين صفوف كبار المسؤولين العراقيين حاليا لم يكن بعثيا.؟ ثم من يحدد إجرامية أو عدم إجرامية ذلك البعثي.؟
و هل ثمة محكمة رسمية و عادلة قد نصبت للناس قبل إغتيالهم تبرر ما حصل و يحصل.؟ لقد كان الجهاز الحزبي البعثي في العراق متضخما بعدد الأعضاء الرسميين، و كان وجود حزب البعث هو الحالة الرسمية الوحيدة المسموح فيها في القانون العراقي و قد حكمت سلطة هذا الحزب لأطول فترة في تاريخ العراق السياسي المعاصر ناهزت أو قاربت فترة الحكم الملكي الذي إستمر ل 37 عاما إنتهت بإنقلاب 14 تموز العسكري الدموي عام 1958، فيما حكم البعثيون العراق في مختلف أطوارهم لفترة 35 عاما كاملة! و حيث نشأت أجيال عراقية كاملة لا تعرف شيئا سوى حزب البعث بل تطبعت ثقافتها و أخلاقها و أسلوبها و منهجيتها بالأساليب البعثية و أضحت تنظر للأمور من خلال الرؤية البعثية رغم أنها اليوم قد تحولت لتيارات الإسلام السياسي و الطائفي إلا أن روحها بعثية صرفة تتمثل في إلغاء الآخرين و التشبث بالرأي و لو كان في قمة الخطأ، و تسقيط المعارضين و اللجوء للغة العنف لحسم الخلاف!!
لقد نجح البعث في فرض ظلاله الثقيلة على المجتمع و الثقافة و الفكر في العراق، و حملات التذابح و التقاتل بين أبناء العشيرة الواحدة أو المذهب الواحد مردها الرئيسي لحالة عسكرة المجتمع العراقي و للحروب التي خاضها نظام صدام و أنتجت أجيالا تعشق التعامل ليس مع الموسيقى و الأفكار كما كان الجيل العراقي السابق للبعث بل تعشق أزيز الرصاص و هدير المدافع و تتحرق شوقا لمناظر الدماء المسفوكة و للجثث المعدومة، و قد كانت الصورة السوريالية التي إنهار بها نظام البعث تحت نيران القوة الأمريكية الطاغية و المذهلة ترجمة حرفية لحالة الضياع العراقية الشاملة، فالفرهود أو عمليات السلب و النهب التي أعقبت سقوط نظام صدام كانت ترجمة حرفية لأخلاقيات الغزو و القتال و الحروب العبثية، لقد نجح نظام البعث نجاحا مذهلا في تشويه و تدمير الشخصية العراقية بإبداعاته التخريبية و لكن البديل قد أضاف لذلك التخريب الممنهج نزعات و أطر عقائدية دينية كانت أم وطنية !، حملات الإجتثاث للبعثيين و بالصورة السخيفة التي تمت لم تنجح أبدا في إجتثاث و إستئصال التفكير الفاشي و الروح العدوانية بل كانت بوابة رهيبة لتصفية حسابات القوى الإقليمية المحيطة بالعراق، فقد أغتيلت قيادات عسكرية من الضباط و الطيارين و غيرهم على خلفية إنتقام وكلاء النظام الإيراني ممن ساهم في حروب الجيش العراقي ضد الجيوش الإيرانية خلال مرحلة الحرب بين البلدين!
لأن الكثير من البعثيين الحقيقيين و الإنتهازيين قد إعتمروا ملابس تمويهية أخرى و بروزا كقيادات في أحزاب دينية و طائفية معروفة أو تسللوا لتيارات فوضوية بعد أن إرتدوا العمائم و أطلقوا اللحى ليتحولون لمجاهدين من خلال تشكبلة الأحزاب الدينية شيعية كانت أم سنية فلا فرق فالنتيجة واحدة فكر فاشي مع دموية مفرطة و إلغاء للآخرين، لقد تحولت عملية إجتثاث البعث لمجزرة و جريمة إنسانية كبرى فالفكر لا يجتث أبدا بالرصاص و السواطير بل بفكر صحي مضاد و بنظام سياسي عصري و حضاري و ديمقراطي حقيقي تكون فيه روح المواطنة هي الأساس و ضمن إطار عقد إجتماعي و سياسي و ثقافي شامل يسدل الستار على كل مآسي الماضي و ينطلق لبناء مرحلة جديدة مختلفة بالكامل عن مآسي الماضي و لكن ذلك لم يحدث حتى اليوم في العراق و قد لا يحدث في المستقبل المنظور لتخلف القوى السياسية المتواجدة في الساحة و لعدم وجود الإرادة الدولية الفاعلة فعلا لحسم ذلك الملف، فمصلحة الجميع تتمثل في ضرورة إستمرار النزيف العراقي و توسيع مساحات الخلاف و تحويل العراق لمحطة صراع رهيبة للقوى الإقليمية في المنطقة... فحجم الخراب في العراق المعجون بهيمنة قوى التخلف و العدمية و الأسطورية المفرطة قد جعلت من العراق أرض حقيقية لكل كوابيس الدنيا... فمن يجثت فرق التخلف المقيم.؟... تلك هي المعضلة....؟
داود البصري
التعليقات