مدخل: احتراق التاريخ
لولا هروب الزعيم التونسي زين العابدين بن علي وانهيار نظامه، لما وجدنا كل هذا الاهتمام بتونس.. ولما وجدنا كل العرب يتابعون ما يجري فيها.. وهذا ينطبق على كل بلد عربي، اذ سرعان ما ينشغل الناس به ان تبلورت اوضاعه عن احداث تاريخية دراماتيكية، ولكن سرعان ما ينسى الناس هذا البلد، لينشغلوا باحداث اخرى في مكان آخر.. لقد غطت احداث تونس الخضراء على احداث جنوب السودان الاسود، وكأن السودان لم ينقسم ليشكّل جنوبه دولة تنضم الى باقي دول القارة الافريقية المنسحقة.. لقد دشنّ العام 2011 فاتحه انشطته المؤثرة بتغير النظام السياسي في تونس، ولم تزل الاوضاع غير مستقرة، اذ ستأخذ لها سقفا زمنيا محددا، كي تبدأ حياة سياسية جديدة في تونس التي رحل نظامها السياسي مع هروب الرئيس زين العابدين وبعد 23 سنة من حكمه لتونس.. وبعد 55 سنة من ولادة الجمهورية التونسية على يد مؤسسها الراحل الحبيب بورقيبة. دعوني هنا، اقدم رؤية تاريخية خاصة للمشهد التونسي الذي يمتلك خصوصية من نوع ما شرحتها في مقال آخر لي سينشر في مجلة روز اليوسف المصرية يوم السبت 22 يناير 2011. فما هي هذه الرؤية؟ وما ابعادها؟ وما طبيعة الخصوصية التاريخية لتونس وهي تقفل مرحلة طويلة من تاريخها المثقل بالاحداث والشخوص والعناصر والحركات والتفاعلات الاجتماعية؟ وهل ستدّشن تونس تاريخا جديدا عند بدايات عام 2011؟ وهل سيبقى شيئا من التقاليد التونسية الحسينية؟ وهل سيتعلم رجال المرحلة الجديدة من تجربة زين العابدين أشياء عدة كان بمقدوره أن يصنعها، لو أدركها تماما؟ ان غباء بعض الزعماء يكمن وراء احتراق التاريخ!

الخصوصية التاريخية والعلامات الفارقة
ان لتونس خصوصية تاريخية يدركها كلّ من تعمّق في تاريخها المثقل بالأحداث والمتشابك بالعلاقات، وبالأخص عالمها الحديث الذي تكونّت منه عناصرها ومراكز قوتها. ويبدو انها تمتلك هذه quot; الخصوصية quot; منذ ان وجدت نفسها في تاريخنا وعلى ايدي العرب باسم quot; أفريقيّة quot; كونها مركزا يربط بلدان المغرب العربي بكل من وادي النيل والمشرق العربي اولا، وجغرافية رأسية لوسط شمالي افريقيا، اذ جمعت البر الافريقي بالبحر المتوسط، اذ تميّزت بموقعها الاستراتيجي المتميز ذي الاطلاطلات المهمة على قلب المتوسط.
وعليه، فهي في القلب من محيط جعلها ملتقى لعناصر بشرية متباينة: العرب الأوائل والامازيغ وموجات الهلاليين والمهاجرين العرب إليها من طرابلسيين وجزائريين ومغاربة.. فضلا عن الأفارقة والأوربيين والأتراك والموريسكيين الأندلسيين والمتوسطيين والعبيد وغيرهم. وعليه، فان شخصيتها السياسية قد فرضتها على امتداد اكثر من ثلاثة قرون عندما حكمها البايات الحسينيون الذين اسسوا كيانهم الاقليمي في تونس على العهد العثماني. ويعتبر أغا الجند حسين بن علي مؤسسا لتلك الشخصية السياسية الحسينية التي استمدت هذه الصفة من اسمه عام 1705، اي عند مفتتح القرن الثامن عشر.. واستمر البايات الحسينيون يحكمون تونس حتى العام 1956 ( أي 250 سنة ) مرورا بمرحلة الاستعمار الفرنسي لينتهي حكمهم على يد الحبيب بورقيبة الذي قاد الحزب الدستوري وحقق الاستقلال، ولكن بقايا نظامهم استمر حتى يومنا هذا مع أهم تقاليدهم، ذلك ان تأثير قرنين ونصف القرن من الزمن التاريخي الحديث، ليس بقليل ابدا..
لقد كان من أهم علاماته التاريخية الفارقة:
1/ تبلورت شخصية تونس من خلال حكم سلالتين حكمتاها: الأسرة المرادية في القرن السابع عشر والأسرة الحسينية منذ بداية القرن الثامن عشر وحتى أواسط القرن العشرين. وان إعادة التأسيس العسكري القوي كان لأغا الجند حسين بن علي الذي نجح في ترسيخ أسس نظام البايات التوانسة مع بدايات القرن الثامن عشر.
2/ القوة البحرية المتميزة لتونس بتوظيف موقعها الجيوستراتيجي في قلب المتوسط منذ القرن السادس عشر، إذ لها باع من التجارب المجيدة، جعلها منفتحة دوما على العالم.
3/ الدور النهضوي البارع للباي حموده باشا 1783- 1814 في التقدم بالايالة التونسية العثمانية.. تقدما واضحا مقارنة بغيرها في الاقليم، متأثرا بالثورة الفرنسية.
4/ولادة أول تشريع دستوري في العالم الاسلامي قاطبة، اذ كانت تونس قد سبقت غيرها في اطلاقها عهد الامان على عهد وزيرها النهضوي البارع خيرالدين التونسي في منتصف القرن التاسع عشر.
5/التحدي الاستعماري لتونس وقوة استجابتها له، فتبلور الدور التونسي المؤثر في حركة النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر.
6/الدور السياسي اللامع الذي لعبه الحبيب بورقيبة والنخبة السياسية التونسية التي ترّبت على القيم التونسية الحسينية وتأسيس الجمهورية على يديه اثر الاستقلال.
7/ وأخيرا يعتبر الرئيس الأخير زين العابدين بن علي آخر ما تبقى من ذاك النمط الذي نبت من قلب المؤسسة العسكرية التي ورثت تقاليد ثلاثة قرون مضت، فهو عصر تاريخي كامل كان قد انطلق به حسين بن علي في مطلع القرن 18، في حين قضي عليه زين العابدين بن علي في مطلع القرن 21.

الدروس التاريخية: نظام تاريخي اسسه حسين بن علي وانهاه زين العابدين بن علي
إن المراديين لم يؤسسوا أية تقاليد كالتي أرساها الحسينيون الذين توارثوا حكم تونس عن جدهم المؤسس حسين بن علي بن تركي. وعليه، فان تونس الحديثة قد ولدت في حقيقة الأمر قبل 300 سنة بالضبط على يد أغا الجند حسين بن علي عام 1705، وتبلورت شخصيتها على عهد الباي حموده باشا الذي قلت عنه في كتابي quot; تكوين العرب الحديث، المنشور عام 1991 quot;: quot; إن الباي حمودة باشا هو المؤسس الحقيقي للإقليمية التونسية الحديثة التي انبثقت بشكل منظم ومؤسس خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وانه دون شك قد تأثر بأحداث الثورة الفرنسية وأفكارها ومبادئها التي عاصرت عهده التاريخي المخضرم بين قرنين، فانبثقت خلاله المعالم السياسية، وبرزت الشخصية الدولية التونسية أسوة ببقية التكوينات.. quot; ( ص 250 ).
مثلما عاشت تونس مع بداية عام 2011 اضطراباتها التاريخية التي لا يعرف إلى أين ستقود نتائجها وتداعياتها، فإنها عاشت قبل مائتي سنة بالضبط، اضطرابات تاريخية مريرة عام 1811 بانشقاق الجيش، ولكن كان زعيم تونس عصرذاك حمودة باشا، إذ عالج متغيرات الاوضاع بذكاء منقطع النظير مقارنة بزين العابدين بن علي الذي خانه غباؤه السياسي بإجراء تحولات جذرية يتطلبها الزمن مع مفتتح القرن 21، في حين كان حموده باشا مدركا لمتغيرات العالم مع مفتتح القرن 19!
لقد كان الرئيس الراحل بورقيبة أذكى بكثير من خلفه عندما نجح الأول في تأسيس الجمهورية، وهو رجل مدني استطاع أن يفرض نهجه السياسي ويخرج بتونس مستقلة بشق الأنفس، إذ التف حوله الشعب التونسي، فخلّص تونس من مشكلات لا تعد ولا تحصى.. ووحّد كل أجزائها.. وكما نجح حسين بن علي في تأسيس حكم أسرته بعد الأزمة المرادية وتخليصه تونس من الهيمنة الجزائرية، وحكم بين 1705- 1740، كذلك كان بورقيبة قد نجح في تأسيس جمهوريته بعد الأزمة الاستعمارية مخلصا تونس من الهيمنة الفرنسية ليحكم بين 1957 ndash; 1987.. ولم يكن زين العابدين بن علي كذلك، إذ لم يتمتعّ بأي عقلية مدنية، فحكم تونس بعقلية شرطي أو رجل امن، وفشل في تطوير آليات الحكم والدستور والحياة التونسية، في حين كانت تونس بالذات بأمسّ الحاجة إلى ذلك..

كم كنت اتمنى على الرئيس زين العابدين بن علي؟
نعم، كم كنت أتمنى عليك وعلى بقية زملائك الملوك والرؤساء العرب أن يتعلموا من دروس التاريخ أشياء ثمينة، ويدركوا طبيعة التاريخ وتحولاته.. وأتمنى أن يسمعوا تساؤلاتي إليك، لأقول: كم تمنيت عليك ان تدرك متغيرات القرن الواحد والعشرين كما ادرك حموده باشا متغيرات العالم عند بدايات القرن التاسع عشر.. كم تمنيت عليك أن تكون أذكى بكثير لما أنت عليه، ومعك زملاؤك العرب وهم يحكمون بلادهم بمناخات القرن العشرين، وكأن هتلر حاضرا، وستالين شاخصا، وشاوشيسكو ماثلا، وعيدي أمين مفترسا.. الخ ماذا لو تعلمت كم تعلم بورقيبة من قبلك وكان بمنتهى الذكاء في معالجاته الأمور؟ إذا كان الزعماء العرب الذين عاصروه، لم يتعلموا منه شيئا، فلماذا لم تتعلم أنت بالذات منه شيئا وتجربته ماثلة أمامك، بل كنت من اقرب الناس اليه؟ ماذا لو عرفت يا زين العابدين كم هي جيوستراتيجية تونس مهمة، إذ أنها تبدأ دوما بالتحولات قبل غيرها.. وعلى من يحكمها إدراك ذلك للسيطرة على ظروفها ومشاركة متغيراتها قبل أن تأكله التطورات وتدهسه عجلة المتغيرات.. وماذا لو تعلمت من التجربة التاريخية اللامعة للباي حموده باشا في كيفية تأسيس توازن اقتصادي داخلي، ومراقبة رأس المال، والحد من عمليات النهب والقضاء على الطفيليين، ومنعشا للاقتصاديات التونسية ومصلحا للفساد ومؤمنا للأسعار والأسواق والإنتاجيات.. كما فعل ذلك حموده باشا؟ صحيح انك بسطت الأمن بالقوة، ولكنك لم تعمل من اجل توفير ساعات عمل للناس ولم تسع لزيادة الإنتاجيات الزراعية.. انك بقيت تحكم كما جئت قبل 23 سنة من دون أن تراعي التطورات في العالم، ومن دون أن تراقب الضغوط الصعبة على شعبك.. وبقيت كلمتك هي الأولى والأخيرة وكأنك مستبد لا يتفاهم، إذ بقيت أسير القرن العشرين.. وإذا كان بورقيبة رجلا نظيفا على غرار بقية نظرائه من أبناء أو زعماء جيل ما بين الحربين العظميين الأولى والثانية في القرن العشرين مع زوجته الماجدة وسيلة بن عمار، فانك لم تكن كذلك أبدا، أنت وزوجتك ليلى الطرابلسي، فلقد أبحت لنفسك ولأسرة زوجتك كل المال، وتركت رجال الأعمال من أقربائك يعبثون بحياة تونس ويرقصون على جراحات أهلها وعوزهم.. كم كنت أتمنى عليك أن تدرك أن العالم قد تغير مذ دخل القرن الواحد والعشرين تغيرات جذرية والتي لم يدركها حتى غيرك من بقية الحكام والزعماء العرب! الشيء الآخر الذي لم تتعلمه لا أنت ولا من هو على غرار نهجك.. اطمئنانكم للعلاقة التي تربطكم مع الاميركان، إذ تعتبرونهم حلفاء دائمين وأبديين.. والأمر ليس هكذا، فهم يستغلونكم أو يوظفونكم وفي اللحظة الأخيرة يهملوكم ويتركونكم تواجهون مصيركم لوحدكم! الم تستوعبوا الدرس من تجارب مريرة لزعماء آخرين؟ وإذا كنت يا زين العابدين قد ضربت القيم الدستورية لأكثر من مرة، وبدأت تعمل على تغيير نصوص في الدستور من اجل بقائك في الحكم.. فأنك ما كنت تدري أن تونس هي أول بلد عربي وإسلامي أسس دستورا له سمي بعهد الأمان عام 1861، وسبق بذلك غيره ممثلا ذلك بكل من القاهرة واستانبول..؟ هل قرأت التجربة الريادية لمفكّر بارع كان اسمه خير الدين التونسي خدم تونس بذكاء منقطع النظير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.. وما الذي علمّه للآخرين منذ أكثر من 150 سنة كي تأتي أنت لتخرق كل مبادئه؟

هل ثمة استنتاجات نخرج بها على العالم؟
قبل التي واللتيا أقول لكل الأخوة التوانسة في العالم.. حذار من حكم أي عسكري لتونس او حكم أي رجل عسكري لها، فتونس لا تنضج شخصيتها ألا بحكم رجل مدني يتمتع بعقلية منفتحة ليس عليكم وحدكم، بل على كل العالم.. وأقول لكل من سيتولى أمر تونس وزعامتها وتسيير دفتها وإدارتها.. أن يقرأ صفحاتها التاريخية بعمق كبير، ويتعلّم من تجارب حكامها ومواصفات زعامتهم وكيف كانت قراراتهم وبأي سياسات تعاملوا مع أية اضطرابات، أو تناقضات، أو انقسامات، أو تدخلات.. وان تحافظوا على تقاليد تونس التاريخية، فهي مدعاة للتأمل والاستفادة والتوظيف، وان تطوّروا المنجزات التي حققتموها على مدى أكثر من نصف قرن مضى اثر استقلالكم، وبالأخص انفتاحكم على العالم مع تجربتكم الثرة بصدد القوانين الخاصة بالعمل والنقابات والمرأة والمجتمع.. حذار من أية قوى سياسية متخلفة تراجعية تأخذكم إلى الوراء، فتاريخكم كله يتقدم دوما نحو الأمام.. حذار من أية انقسامات، فانتم تتمتعون بنزعة وطنية تبلورت منذ القدم، وانصهرت عروقكم وجذوركم وعناصركم في بودقة وطنية واحدة.. نتمنى أن تبدأ تونس تاريخا جديدا لها نحو المستقبل.

www.sayyaraljamil.com