إحتار العراقيون بين وصف ماحدث ببلادهم في نيسان 2003 بسقوط النظام (المقصود به نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين) أو بسقوط بغداد (بإعتبارها رمز العراق وسقوطها وإنهيارها سقوط وإنهيار للدولة العراقية) وقد زاد الساسة والمثقفون العراقيون هذه الحيرة في نفوس العراقيين لأن منهم من يستخدم الوصف الأول ومنهم من يستخدم الثاني وبينهم إحتار العراقيون وإحتار معهم زمانهم.. فلقد كان الهدف المعلن من الحملة العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية وأحزاب المعارضة العراقية المتحالفة معها يوم 20 آذار 2003 على العراق والتي آتت ثمارها يوم 9 نيسان 2003 بدخول القوات الأمريكية لبغداد هو إسقاط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين وقد حدث هذا بالفعل ولكن السؤال هنا هو هل إكتفت قوات الإحتلال الأمريكي والأحزاب العراقية بذلك كما كانت تدعي أم إنها واصلت بعد هذا التأريخ إسقاط كل دعائم ومقومات الدولة العراقية التي تم إرسائها عام 1921 وعلى رأسها بغداد التي تحولت بعد هذا التأريخ الى مدينة أخرى غير التي نعرفها وبالتالي بات وصف سقوط بغداد الذي لانزال نلمسه ونعيش تداعياته المؤلمة حتى الآن هو الأقرب والأصح لوصف الحالة العراقية بعد نيسان 2003 بدلاً من وصف سقوط النظام الذي حدث وإنتهى وبات الآن من الماضي.

لقد سبق سقوط بغداد الحبيبة بيد الأمريكان في 2003 سقوطها بيد المغول قبل قرون من الزمان ومعروف من سهل الأمر للإثنين في المرتين وماهو هواهم وماهي ريحهم.. وبالتالي فعندما نقول سقوط بغداد نعني به سقوط بغداد بيد الغزاة المحتلين الذين إستباحوا أرضها وسقوطها بيد الدخلاءالذين يدعون بأنهم عراقيين ونصّبوا أنفسهم سادة عليها وعلى أهلها ويريدون التحكم بمصيرها ومصيرهم وسقوطها بيد الرعاع الناعقين مع كل ناعق والذين تتملكهم عقلية القطيع وأمثال هؤلاء لم ولن يراعوا لبغداد واهلها حرمة لأنهم مدفوعين بطمع وحقد وبغض لاحدود له لها ولأهلها.. وعندما نقول سقوط بغداد فنعني به إنهيار بغداد ومسخها كحالة متميزة إجتماعياً وثقافياً فالملامح الحالية للوضع الإجتماعي والثقافي لبغداد هي غير التي نعرفها وعرفها عنها العالم وبعد أن كانت بغداد رمزاً للحضارة والتمدن والتحرر والتحضر باتت اليوم مدينة تحكمها وأهلها القيم والأعراف الدينية الراديكالية الصارمة والكلمة الأولى والأخيرة فيها وفي كل العراق لخطباء الجمعة الذين باتوا يُملون على أهلها وحكوماتها مايجب وما لايجب عليهم فعله.. ثم دعونا هنا نسأل.. كيف لاتكون بغداد قد سقطت وقد أسقط ودمر بفعل فاعل حاقد على بغداد العمل الفني الذي كان يجسد رأس بانيها ومؤسسها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور!.. وكيف لاتكون بغداد قد سقطت وهي اليوم عاصمة نظرياً وعلى الورق فقط فيما عملياً تحولت أغلب المحافظات العراقية الى إمارات يحكمها أمراء الطوائف الذي ظهروا بعد نيسان 2003 وبات لكل منها سلطتها الخاصة المستقلة بشكل كامل عن بغداد التي لم تعد لها سلطة أصلاً والتي أضعفت بشكل مقصود لتقوية سلطات المناطق الأخرى ولتلعب بها الأحزاب (شاطي باطي) بهدف تحويل العراق بأكمله مستقبلاً الى مجموعة من الأقاليم لكل منها عاصمة خاصة به وبالتالي إنهاء عاصمة العراق الخالدة بغداد وإلغائها وإلغاء كل دولة العراق من الوجود وربما من الخارطة!.. وكيف لاتكون بغداد قد سقطت وقد أمست مدينة تشم فيها رائحة الموت ويخيم عليها الظلام بعد أن كانت مدينة تنبض بالحياة وتشع بالنور وتسهر حتى الصباح!.. وكيف لاتكون بغداد قد سقطت وقد تحولت أحيائها الى كانتونات طائفية هذه للشيعة وتلك للسنة تفصل بينها كتل كونكريتية وتحكمها وتسيطر عليها ميليشيات لهذه الطائفة أو تلك بعد أن كانت نموذجاً نادراً للتعايش السلمي بين مختلف أطياف البشر على إختلاف مذاهبهم وقومياتهم وطوائفهم!.. وكيف لاتكون بغداد قد سقطت والكل يتهرب من إقامة وتنظيم المهرجانات والفعاليات الثقافية والمؤتمرات السياسية والإقتصادية والمباريات الرياضية التي باتت تعقد وتقام بعيداً عنها وكأنها مصابة بالطاعون فيما هي أطهر من أطهرهم!.. وكيف لاتكون بغداد قد سقطت وقد باتت أيامها ولياليها التي كانت تزهو بالحفلات والأعراس والأفراح مليئة بالمآتم والأحزان!.. وكيف لاتكون بغداد قد سقطت وشوارعها الزاهية وحدائقها الغنائة التي كانت تعج بالناس حتى منتصف الليل باتت مظلمة مقفرة يخيم عليها شبح الموت وتسيطر عليها الذئاب والوحوش البشرية المفترسة!.. وكيف لاتكون بغداد قد سقطت وكورنيش الأعظمية وكورنيش أبو نواس باتت أرضاً حرام بعد أن بات كل شيء في العراق محرماً!.. وكيف لاتكون بغداد قد سقطت وهي لم تعد بغداد التي نعرفها ويعرفها العالم بعد أن تغيرت ملامحها وقُتِل وهُجِّر أهلها البغادلة الأصلاء وبات من بقي منهم أسيراً بيد الدخلاء والرعاع!

وعندما نقر بسقوط بغداد فهذا لاينتقص من قيمتها الكبيرة ومكانتها العظيمة لأنها ستبقى رغم حقد البعض عليها وعلى أهلها أم البلاد وسيدة المدن ودرة العالم وجوهرة الكون ومن يدعون اليوم بأنهم يرفضون وصف سقوط بغداد حباً بها ويقولون بأنها لم تسقط ومن سقط هو النظام ليسوا صادقين بهذا الإدعاء وأغلبهم سياسيون ومثقفون وعوام إما ساهموا بإحداث هذا السقوط بشكل أو بآخر ويريدون بهذا الكلام الشاعري المؤثر التغطية على جريمتهم النكراء أو يريدون دفن هذا المصطلح وتغييبه حتى لايغطي على المصطلح الفرعي وهو سقوط النظام الذي يثير فيهم النشوة والفرح ويُشبِع روح الثأر التي تملكتهم قبل ذلك التأريخ وكانت وراء كل ماقاموا به وليس إيمانهم كما كانوا يدعون بالحرية والديمقراطية. إن هؤلاء لايريدون أن يروا أو يتذكروا مما حدث في نيسان 2003 سوى سقوط النظام لأن هذا هو كل مايهمهم وهذا بالفعل كل ماكانوا يحلمون به قبل ذلك التأريخ ولم يكن همهم وطموحهم كما كنا نعتقد وكما كانوا يدعون تغيير النظام وبناء نظام ديمقراطي وتوفير حياة حرة كريمة للشعب العراقي وأمثال هؤلاء لايهمهم حتى وإن إحترق العراق كله المهم هو إنهم لم يفارقوا الحياة قبل أن يروا لحظة سقوط نظام صدام التي إنتظروها طويلاً وكانوا يحلمون بها ليل نهار أما مايليها فلا يهمهم ولم يكن في حسبانهم أصلاً فعندما تشرح لأحدهم عن وضع العراق الحالي المزري يجيب (كلهة تهون المهم صدام سقط).. لاحظوا هذه الطريقة المَرَضية في التفكير إذ ما هو الربط بين الموضوعين؟ ومن قال أن ثمن سقوط نظام صدام كان يجب أن يكون باهظاً بهذا الشكل؟ ومن قال بأنه كان على الشعب العراقي أن يدفع مليون ضحية من أبنائه خلال5 سنوان ثمناً لذلك؟ ومن قال إن على الشعب العراقي إن يقبل بأحزاب فئوية فاشلة تحكمه بعد سقوط نظام صدام لا لشيء سوى لأنها تدعي بأنها كانت تعارضه يوماً؟ بربكم هل هذا منطق إنسان عاقل سوي وهل هذا ما كان يطمح إليه العراقيون؟.. وهنا تجدر الإشارة الى أن هنالك اليوم من يحاولون خلط الأوراق والتعتيم على ماحدث في نيسان2003 وماتلاه من تداعيات بإفتعال أحداث ومناسبات يدعون بأنها جرت في نيسان ولكن في سنوات سابقة لإلهاء الناس وصرف أنظارهم وتشتيت أفكارهم عن النظر والتفكير بالحدث الأساسي الذي جرى في ذلك الشهر من عام 2003.

ختاماً يجب أن ننبه الى أنه لايزال البعض يحمل معوله المشبع بالحقد الدفين على بغداد والعراق ويواصل تهديم وإسقاط ماتبقى منهما ليخلو له الجو لتنفيذ مآربه الدفينة لذا يجب علينا أن نصحوا وننتبه وأن نرى الحقيقة كما هي لا كما يزيفها البعض.. والحقيقة هي إن الآثار المريعة والنتائج الكارثية التي نعيشها منذ خمس سنوات لما حدث في نيسان2003 هي آثار ونتائج لسقوط دولة العراق وعاصمتها بغداد وليس لسقوط النظام فالنظام سقط وإنتهى وأصبح من الماضي أما بغداد فنعيش سقوطها ودمارها الذي بدء في نيسان2003 يوماً بيوم ولحظة بعد لحظة وهذا مايجب أن نُقِر ونعترف به لنتعلم ونعتبر ولنتدارك الأمر ونصححه ونزيل آثاره ولنمنع حدوثه في المستقبل وبالتالي ننقذ عاصمتنا الحبيبة بغداد رمز عراقنا العظيم مما هي فيه ونساعدها على تجاوز هذه المحنة والنهوض من هذه السقطة والكبوة كأي فرس أصيلة وعنقاء شامخة لتنهض من جديد وتمارس دورها الحضاري الذي عرفها به العالم.

مصطفى القرة داغي

[email protected]