التوركماني، العربي، السرياني، الارمني وأخوهم الكوردي بعض من مكونات التركيبة القومية للنسيج السكاني لمدينة كركوك. هذا التركيب يعود الى عهود سحيقة تاريخيا ومنذ ألاف السنين حيث تباين نسبهم السكانية في المدينة حسب الصروف والزمان. هؤلاء جميعا متفقون بان مدينتهم كركوك مدينة التسامح والمحبة والاتقاء الثقافات المتداخلة والغير متجانسة وجنينه فيها أزهار الدنيا وأرضها معطاة يهب الجميع من ثرواته ولكن رغم كل هذا الاتفاق هناك واقع آخر في المدينة المنقسمة على نفسها. هذا الواقع نراه جليا في التوزيع الجغرافي ألاثني لأبناء المدينة التي بدأت بالتبلور أكثر بأكثر خلال الخمس السنوات الأخيرة وذلك بتحديد الأحياء التي يسكنها كل قومية والقوميات التي تتآلف وتتعاضد فيما بينها في توزيع دقيق ذو حدود جغرافية معروفة لدن الجميع.

هناك مصالح عليا لكل طرف من أطراف المعادلة في المدينة وفي ما يسمى بالمحافظة بأكملها. بالنسبة للتوركمان نرى تاريخيا ان تأثير الأفكار القادمة من وراء الحدود أي من تركيا كانت ولا تزال الحاكمة على فكرها السياسي والقاسم المشترك لتلك الأفكار هو على الأكثر ذو طابع قومي تركي يعتمد على التنظير التركي الخاص بقدوم الأتراك العثمانيين الى المنطقة وتلك الأفكار القومية معروفة في الأدبيات السياسية تحت تسمية quot; الطورانيةquot;. الفكر القومي التركي انتشر بين أبناء مدينة كركوك من التوركمان على اثر إعلان جمهورية تركيا الفتية على يد مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال المعروف بلقب quot;أتاتوركquot;. يسمى هذا المنحى في الفكر القومي التركي ب quot;ميليتجيquot; ويقابلها بالكورديةquot; الكوردايتيquot;. هذا الفكر القومي التركي لهو جذور عميقة في نفسية التوركمان خاصة بعد انحسار الفكر الإسلامي بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية اثر الحرب العالمية الاولى.


نرى ان انتشار تلك الأفكار كانت بعيدة عن أبناء الريف من التوركمان كلما اقتربنا من حدود ايران فيما كانت تأثيرها ضعيفا بين التوركمان في مدينة اربيل عاصمة إقليم كوردستان مثلا حيث نرى ان التوركمانية لغة العديد من العوائل الكوردية في المدينة و بمثابة لغة ثقافية. هذا المبدأ الأخير أي اللغة الثقافية نرى لها انعكاسات حتى بين العرب والسريان والأرمن حيث اتخذوا اللغة التوركمانية كلغة ثقافية في كركوك لغة بيت حيث نرى أن معظم الإحصائيات السكانية التي أجريت ليست بواقعية لأنها تعتمد على اللغة المحكية في البيت وليس على الأصول القومية الحقيقية للإفراد. هذا ما نلمسه اليوم في تركيا نفسها فلا توجد حسب الإحصائيات الرسمية أي قومية أخرى غير التركية في البلاد والكل يتكلمون لغة الحاكم أي التركية ويسجلون في السجلات الإحصائية بالأتراك.لا ريب ان العديد من العوائل المسيحية من السريان والأرمن لجئوا الى المدينة قادمين من تركيا نفسها بعد الاضطهاد والمجازر التي قام بها رجال الجمهورية التركية الفتية. ورد التراكيب الثقافية لمكونات النسيج السكاني لمدينة كركوك في اتفاقية عام 1932 المادة 19 الفقرة الأولى الموقعة بين حكومة دولة العراق الملكية وقوات الانتداب البريطاني باعتبار اللغة الكوردية والتركمانية أساسيتان في المدينة بجانب العربية لغة الدولة.

هذا كله ادى الى انحصار الفكر القومي لدن أبناء المدن خاصة في كركوك ولا تزال المدينة تعتبر عصب الشريان للفكر القومي التركي والذي يتم على أساسه توزيع الانتماءات حتى الى الشعب نفسه. اما في تركيا نفسها فقد تغيرت الخارطة السياسية عدد مرات بين وسط يسار الى قومي والى ديني ولكن بقى الفكر الحاكم في المؤسسة العسكرية والمدنية تعتمد على أساس رفض وجود أية قومية أخرى ما عدا الأتراك الى وقت متأخر حيث بدأت السلطة وتحت تأثير الأفكار الأوربية وما يمليه الاتحاد الأوربي من شروط تغيرات جوهرية في البناء الفكري للدولة التركية بالاعتراف بوجود القوميات الأخرى وإجراء تعديلات قانونية ودستورية. بقى ان نعلم ان الفكر القومي التركي السائد في تركيا او في العراق يرى في الأكراد عدوا لدودا وينعكس ذلك على أدبياتهم السياسية الذي يقوم التوركمان بتقليدهم حرفيا.
لا ريب بان التوركمان شاركوا في الأحزاب السياسية العراقية بكافة اتجاهاتها وهم يمثلون اليوم جزء من التيار الإسلامي الشيعي الحاكم ولهم نوابهم في البرلمان خارج الجبهة التوركمانية التي تمثلها شخص رئيس الجبهة الدكتور سعد الدين اركنج. ان مشاركة التوركمان في الحياة السياسية وفي مؤسسات الدولة الرسمية والجيش والأمن اخذ طابعا يتماشى مع الحكومات التي حكمت البلاد. كان العديد منهم من أعضاء حزب البعث المنحل طوعا او جبرا كما كان عليه معظم ابناء الشعب العراقي مع تفاوت الانتماء والتفاني. هذا ما يحاول اليوم معظم الحركات السياسية تجاوزها بمنع هؤلاء من الانخراط بين صفوفها وهذا احد الشروط الأساسية في تكوين تلك الحركات السياسية.


كما ذكرت سابقا يبقى عقدة التوركمان حول العداء للاكراد يطغى على الفكر القومي التوركماني ولم يتجاوزها لحد اليوم حيث يعكس كل ذلك في أدبياتهم الحزبية وهي كما ذكرت تقليد لأدبيات حزب الحركة القومية في تركيا.


ان أي حركة سياسية لا تعترف بواقع الجغرافي والاثني لمناطق تواجد التوركمان ستكون غير واقعية ولا تجلب أي حل واقعي للمشاكل الأساسية للشعب التوركماني الذين يمثلون القومية الثانية في إقليم كوردستان من حيث تعداد السكان. العديد من الشخصيات التوركمانية الذين لا ينتمون الى الخط القومي وعوا الى هذه الحقيقة فحوربوا من قبل الخط القومي خاصة في مدينة كركوك. بينما نرى ان هناك زيادة في الوعي الفكري التوركماني لهذه المسألة بدأت تتبلور حديثا وتطالب بفتح قنوات الحوار مع الأحزاب السياسية الكوردية من اجل بناء لآلية واقعية للحوار والتواصل الحضاري. في حين هناك خط فكري ثوري قومي بين التوركمان يؤمن بالعنف وبان الحقوق لا تمنح بل تؤخذ بالقوة ويدعوا كذلك الى تأسيس المليشيات المسلحة وحمل السلاح.


ان العقود الثلاث الأخيرة غيرت مجرى التركيب السكاني للمدينة بأكملها وللمحافظة بصورة عامة. ناهيك عن آلاف من التوركمان الذين هاجروا وتركوا البلاد كبقية مكونات الشعب العراقي إذ ان هناك جالية توركمانية في أوربا وأمريكا وكندا والدول الاسكندينافية. اما تركيا فتعتبر الدولة الحاضنة التقليدية للتوركمان اذا يعيش هناك عدة آلاف منهم يعملون في التجارة والحرف والتعليم. الأحزاب السياسية التوركمانية عموما تستبعد هذه الشريحة من حساباتها مع العلم ان أعدادا كبيرة من هذه الشريحة قد تشبعت بروح الديمقراطية وذو خبرة أكاديمية عالية يعتبرون السند للشعب التوركماني الذي عانى ما عاناه أيام النظام السابق فتأخر جدا وخاصة من ناحية التعليم والتدرب الإداري والسياسي.

ان هناك شح المعلومات حول التكوين السياسي والاجتماعي والثقافي للشعب التركماني الذي لم يستطع وعبر التاريخ عرض نفسه بواقعية، فكرة وهوية ثقافية وسياسية اجتماعية بفعالية كافية حتى على المثقف العراقي العربي والكردي. افتقاد خاصة الى تلك البحوث والدراسات الحيادية التي لا تهيمن عليها قوى خارجية او أفكار شمولية حزبية ضيقة ويكاد ان يعرف أبناء الأمة العربية والكردية النزر القليل عن هذا الشعب الذي يشاركهم الهم الوطني منذ أكثر من ألف عام ويذكرها الشعب نادرا في المناقشات السياسية ولا يعرف الكثير عن طموحاته وآماله في الحياة الحرة الكريمة.
لا ريب قارئي الكريم ان الكثير مشاكل الشعب العراقي يمكن تجاوزها في ظل قيام دولة عصرية دستورية تعددية وديمقراطية فدرالية تضمن الحياة الكريمة للمواطنين وتبعد منهم شبح الظلم والاضطهاد دولة تنشر الحق والعدل في ظل سيادة القانون واستقلالية القضاء، نظام سياسي ديمقراطي تعددي يؤمن استمرارية الدولة العراقية الدستورية ويضمن حقوق الجميع دون الحاجة الى المطالبة بالحقوق عن طريق رفع الحراب واستخدام العنف وحمل السلاح.

د. توفيق آلتونجي
السويد