بعد كل ما عاناه شعب العراق طيلة العقود الماضية تحت حكم الدكتاتورية والاستبداد، كان من المفترض أن تعالج مشاكله، خاصة مشكلة القوميات، بشكل جذري وسليم في اطار دستور جديد، يؤسس لدولة عراقية فدرالية تعددية ديمقراطية، مستفيدة من تجارب ناجحة لدول عديدة في هذا المضمار. دستور يسمح بإنشاء مناطق للحكم الذاتي القومي لجميع القوميات، صغيرة كانت أم كبيرة، وبما يحقق علاقات قومية ووطنية منسجمة ومستقرة ومتوازنة ويعزز الثقة والتعاون فيما بينها ويحقق العدالة والمساواة في توزيع السلطات والثروات و تؤمن حقوق وفرص متساوية ومتكافئة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، وبهذه الخطوات كان يمكن أن تتقدم العملية الديمقراطية والسياسية بشكل متسارع في العراق. لكن بكل أسف هذا لم يحصل، ما حصل استئثار زعماء الطوائف والقوميات الكبيرة وقادة الميليشيات بالقرار وفرض سياسية أمر الواقع، وتصرف جميع هؤلاء بطريقة غرائزية بدائية غير مدنية، وكل سعى لتوسيع جغرافيته السياسية والطائفية والقومية على حساب وحدة الوطن العراقي. وبالتالي همشت القوميات والأقليات الدينية الصغيرة كالآشوريين(سريان/كلدان) والتركمان والصابئة والمندائيين والأرمن، وكانت النتيجة إيصال العراق الى ما هو عليه اليوم من تفتت و إدخاله في حرب أهلية مريرة ومدمرة.وقد تصرفت حكومة (إقليم كوردستان) بمنطق الدولة المستقلة ذات السيادة، وانسجاماً مع هذا النهج والسياسة الكردية طرحت مستقبل سهل نينوى عبر السيد سركيس آغاجان(الوزير الآشوري في حكومة الإقليم) بغية توسيع حدود الإقليم، أو(الدولة الكردية المنشودة)، لتظهر للعراقيين وللعالم بأن ضم سهل نينوى هو رغبة أو خيار آشوري، مستفيدة من حالة الآمان والاستقرار النسبي التي تنعم بها مناطق الإقليم قياساً لما هو عليه الحال في الوسط والجنوب والموصل. وقد كشف عن هذه الأطماع الكردية الرئيس العراقي (جلال طالباني)، عندما طرح على التركمان (حكماً ذاتياً) لكركوك، ذات الغالبية التركمانية، شريطة أن يوافق التركمان على ضم كركوك الى إقليم كردستان كمخرج لعقدة كركوك المستعصية.بالطبع الرئيس جلال لم يطرح على الآشوريين حكماً ذاتياً لهم في سهل نينوى، لأنه ويبدو أنه يعتبر أمره محسوم فيما يخض ضمه الى الخريطة الكردستانية، وهنا وقع الرئيس جلال في خطأ سياسي كبير، إذ لا يجوز لرئيس دولة أن يتحدث باسم قوميته أو ينحاز لفئة عراقية معينة. يبدو لي ومن خلال استقراء الساحة السياسية الآشورية أن هناك لغطاً كبيراً حول مصير ومستقبل سهل نينوى، وهو ما تبقى من كل (بلاد آشور) لأن يتحدث عنه الآشوريون ويأملون بحكمه وفيه يقررون مصير ما تبقى، أم ما سيتبقى، من الآشوريين العراقيين. وعلى ما أعتقد بأن معظم الأحزاب والتنظيمات الآشورية داخل العراق وخارجه أخطأت منذ البداية في التعاطي مع (المسالة الآشورية) في العراق ومثلما أخفقت في تعبئة الرأي العام الآشوري تجاه قضيته، كذلك هي أخفقت في نقل قضيته الى الرأي العام العالمي وإثارتها في المحافل الإقليمية والدولية. أين الاعتصامات الآشورية في الغرب وعواصم العالم، حيث جاليات آشورية كبيرة للفت أنظار العالم لمأساة الآشوريين وقضيتهم في العراق؟أين اللوبي الآشوري في دول القرار وأحزابنا في المهجر أكثر مما هي في الوطن؟هذا التقصير يعود بالدرجة الأولى الى افتقار الأحزاب الآشورية لرؤية مستقبلية سياسية واستراتيجية واضحة ومحددة فيما يخص مشكلة الآشوريين.فقد راهنت على الآخرين أكثر من أن تراهن على ذاتها في إحقاق حقوق الآشوريين، وتهافتت خلف المكاسب الحزبية والمنافع شخصية أكثر بكثير مما عملت للقضية الآشورية.وبسبب افتقارها الى الحدس أو القدرة على التحليل السياسي أخطأت كثيراً في قراءة المشهد العراقي وبالغت في رهانها على أن العراق سيتحول الى دولة عراقية ديمقراطية تعددية نموذجية بمجرد قدوم الأمريكان وسقوط نظام صدام حسين.
لا جدال، على أن الآشوريين من القوميات أو الشعوب الصغيرة نسبياً في العراق وبالتالي هم ضعفاء بإمكانياتهم وقدراتهم وهم من غير حليف إقليمي أو دولي، ولا خلاف على ان معظم الأحزاب الآشورية هي حديثة العهد وضعيفة الخبرة والتجربة في السياسة لكن مع هذا كان يجب أن لا تسقط الأحزاب الآشورية من حساباتها السياسية المطالبة بإقامة (كيان قومي آشوري)، ذاتي وحتى مستقل في اطار الدولة العراقية، خاصة وأن كل المؤشرات كان تدل على أن العراق سائر نحو التقسيم إلى أقاليم فدرالية وربما دويلات مستقلة على اسس عرقية ومذهبية وقومية.لماذا يعطى هذا الحق للعرب والأكراد ولا يعطى للآشوريين والتركمان، والآشوريون هم أصل العراق وتاريخه وبناة حضارته. تتحدث كثيراً الأحزاب والتنظيمات الآشورية عن حكم ذاتي في سهل نينوى، لكن ماذا وفرت من عوامل قوة، وماذا أعدت من أموال ومقومات مادية ولوجستية على الأرض في سهل نينوى وباقي المناطق والتجمعات الآشورية لدعم مقومات صمود الآشوريين وبقائهم في سهل نينوى؟.هل فكرت بإرسال
متطوعين آشوريين للدفاع عنهم في سهل نينوى إذا ما تعرضوا لهجوم واعتداء من قبل أطراف ما، وهو متوقع أن يحصل في ظل ما يشهده العراق من حرب طائفية؟. هل خلاص الشعوب يتم بالبيانات والخطب الرنانة والمؤتمرات والجلسات الصالونية الآشورية أمام الكاميرات للظهور على الشاشات.الآشوريون من الشعوب الصغيرة في المنطقة، لكنهم أكثرها في عقد المؤتمرات والجلسات الموسعة، ماذا كانت النتيجة وماذا قدمت هذه المؤتمرات الى الشعب الآشوري بالطبع لا شيء، فقط تتحول(المؤتمرات) الى حلبة للمزايدة القومية والدجل السياسي.ثم هناك سؤال مهم واساسي يفرض نفسه في هذه القضية وفي هذا الظرف العصيب وهو: فيما إذا قررت الحكومة الكردية، أو قوى عربية إسلامية متطرفة، اجتياح إقليم سهل نينوى بالقوة، وهذا ما سيحصل غالباً، وحتى بدون أخذ المطالب الآشورية بعين الاعتبار، ماذا سيكون موقف الأحزاب والقوى الآشورية من عملية الضم والاجتياح هذه، هل هناك من بدائل وخيارات أخرى في استراتيجيتها أو هل من وسائل وبدائل قادرة الأحزاب الآشورية من خلالها على الدفاع عن آشورية سهل نينوى غير اسلوب التودد والمناشدات الذي نراه اليوم والذي لن يجدي نفعاً امام تصاعد أعمال العنف وانتصار لغة السلاح على لغة المنطق والحق ؟.أعتقد إنه من المهم جداً أن يتوقف الجميع عند هذا الاستحقاق القومي المهم وربما هو الأمل الأخير والمتبقي للآشوريين العراقيين بعد فقدان الأمل بعودة العراق وطناً لهم ولكل العراقيين.في هذا الظرف الكارثي والمأساوي الذي يمر به الشعب الآشوري والمسيحي عامة وسياسة التطهير العرقي التي يتعرض لها، أرى من المهم جداً أن تتركز الجهود الآشورية والمسيحية داخل العراق وخارجه حول ضرورة توفير (منطقة آمنة) توفر لهم عوامل الاستقرار في سهل نينوى دون الخوض في الأبعاد السياسية لمستقبل هذه المنطقة في المرحلة الحالية. فالقضية اليوم لم تعد مسالة حقوق ثقافية أو ادارية بالنسبة للآشوريين والمسيحيين في العراق وإنما قضية موت وحياة، وجود أو عدم وجود. ليترك التابعية السياسية والإدارية للمنطقة الآمنة للمستقبل وعلى ضوء الصورة الجديدة للعراق.لا شك، أن المنطقة الآمنة تحتاج لضمانات دولية من الأمم المتحدة وإن كان هذا يبدو صعباً في هذه المرحلة لكن يجب العمل على هذا الاتجاه وتحريك القضية الآشورية ببعدها الإنساني وليس السياسي. وقد ظهر بالفعل بعض الشخصيات والمؤسسات في العالم تؤيد إيجاد مثل هذه المنطقة آمنة للآشوريين العراقيين لدواعي إنسانية. فإذا ما استمرت الأوضاع الأمنية في التدهور من غير أن يتوفر للآشوريين (ملاذ آمن) لا أعتقد بان يبقى آشوريون في العراق، لا في الجنوب والوسط ولا حتى في الشمال الآمن الذي يستقطب الآشوريين والمسيحيين الهاربين من الخطف و الموت الذي يلاحقهم في كل مكان.فبالرغم من الاستقرار و بعض المكاسب القومية للشعب الآشوري في ظل الحكومة الكردستانية للإقليم الشمالي، تسود الشارع الآشوري مشاعر اليأس والإحباط بسبب كثرة التجاوزات على املاك والقرى الآشورية وحصول أكثر من حالة اغتيال لقيادات وكوادر سياسية آشورية (فرنسيس شابو وسمير وبيرس وغيرهم) ولآشوريين عزل على أيدي أكراد من غير أن يحاسب أو يلاحق القتلة، واستمرار بعض الممارسات العنصرية وسياسة التكريد بحق المناطق الآشورية واتجاه الآشوريين والمسيحيين عامة.هذا ما لامسناه في جولة قمنا بها الى الشمال العراقي 2002، كما يؤكد استمرارها أكثر من كاتب وسياسي كردي ابرزهم (نزار أغري) الذي يقول: ((يعمد الأكراد في سلوك عنصري واضح الى تبديل اسم اربيل باسم كوردي(هولير) واربيل معروفة بماضيها وتاريخها السرياني الآشوري وهي تعني بالسريانية الآلهة الأربعة. وهم الآشوريون(سريان / كلدان) يتعرضون لسوء المعاملة والإساءة والرعاع يهجمون على قراهم والمتطرفون يخطفونهم ويقتلونهم... والمتنفذون في الأحزاب الكردية يستولون على أراضيهم خاصة في فيش خابور وشقلاوة، ليس لهم أن يقولوا ما في داخلهم خشية من التعرض للأذى والحرمان من فرص العمل والوظيفة)).وبسبب التركيبة القبلية والعشائرية والإقطاعية لـ(الحزب الديمقراطي الكردستاني)، المسيطر الرئيس على الحياة السياسية والاقتصادية والإدارية وعلى قوات البشمركة(الجيش) والأجهزة الأمنية، يستبعد أن يقيم حياة ديمقراطية وحريات سياسية صحيحة في الإقليم، جدير بالذكر لم يسمح حتى الآن ببروز أحزاب وتنظيمات سياسية، كردية وغير كردية، معارضة لحكومة البرزاني في إقليم كردستان.

سوري آشوري مهتم بحقوق الأقليات
[email protected]