(1 من 2)

لعلها إحدى أشرس اللعنات التي يُطعن بها المبدع العربي في صميم كيانه ووجدانه وإنسانيته ووجوده، وقبل أن يبلغ من الإدراك أو اليأس عتيّا هي تلك الجملة من الحقائق الضارية التي تُصيب مقتلا في لا وعيه، لتنفرد في ابتزاز التزامه مُبكّرا كان أم مُتأخّرا، أوجعها ndash; الاحتلال، التخلّف، الخلافات، التجزئة، الجهل وغيرها الكثير، وتبقى هذه العوامل السلبية أمينة على استنزاف كافة أحلامه ويقظته على مدار الحقب الصعبة والمراحل التاريخيّة الأصعب والتي تتعاقب بين الحلكة والسواد جيلا بعد جيل وعاما بعد عام وهو يحاول عبثا أن يتلقّف بصيصا من أمل يُذكر، وهكذا يخرج المبدع العربي كما غيره عنوة وبشكل قسري من طور المأمول والمُرتجى كفرد من أمّة آمن بانتمائه إليها، ليجد نفسه أعزلاً على قارعة واقعٍ مُفجع وراهنٍ كابوس! حيث لا بديل عن الارتطام بالشواهق من الشعارات، والعريض من العناوين، والمتين من الأنظمة، والعتيد من السلطة التي هي في حقيقة الأمر لا تتعدى عن كونها حالة من حالات التسلّط المزمن والمُستشري زمنا وتعديات، والأقبح من هذا كلّه هو ذاك المجهول المُقَرّر، للمصير المُقَدّر ودائما غير المقدور عليه في مجمل الاحتمالات، ليصير من البديهي أن يتحوّل المُبدع العربي شيئا فشيئا عن إبداعه ليواكب حركة quot;المُنظرين quot; ويدخل مع من دخلوا حلبة الثقافة على أنواعها /النخبويّة، الشعبيّة، التعبويّة / تِبعا للركب الذي ينتمي إليه، متّكلا على الطيف الذي يفرزه، واللون الذي يصطبغ به، والجهة التي تدعمه، والوجهة التي يَنْساق معها ويُساق إليها، لتصبح التكتلات والشلليّة والارتباط الخارجي الذي يزرع في ذهنيته أفكارا مُستحدثه ومستوردة، وفق مزاجيات وثقافات مُستعارة من البعض ومُستهجنة لدى البعض الآخر، بديل الحلم الثوري الذي آلت صلاحيته إلى الانتهاء والعدمية باستحالة تحقيق الوحدة العربية كاحتمال أكيد على الأقل بالنسبة للمدى المنظور، وخاصة بعد أن تمّ تحطيم القالب الدرامي الذي كان يحتويه ذاك الحلم، وتمزيق الأسلوب الرومانسي باعتباره البطانة الأولى والخامة الأصلية، يوم كانت اللهفة والحماسة والاندفاع والإرادة والشوق والعقيدة والعزم بمجملها معطيات أساسية بُني عليها حلم quot; الوحدة العربية quot; ولا ريب أنّ الكثير من بقايا هذه الحفنة من المشاعر المحرّضة للتواصل، والمحفّزة لمدّ الجسور بين أبناء العروبة على امتداد الشقاق والشتات العربي، لا تزال تنبض في وجدان الكثير من أبناء الأمة الحريصين على منطلقاتهم ومبادئهم وتطلعاتهم المصيرية بالصورة التقليدية نفسها وبالرؤى الرصينة عينها، مما يعرّضهم للّوم كتقليديين ورجعيين تاهوا عن ركب الحضارة وتخلّفوا عن مسارها، بينما هم منصرفين للانشغال بموضوع الوحدة العربية كقضية حياة ووجود، وعزةّ وكرامة وطن، وكبرياء أمّة.. هكذا يتمّ الاشتغال لتوثيق تلك المعاني وترجمتها بمؤتمرات، واحتفاليات، ومناسبات، ومهرجانات لم تسفر حتى اليوم بأكثر من تفخيم البلاغة، وتعظيم البيان في الخطب التي لا يليها غير الخطب، والبيانات التي تراوح خلفها الكثير من البيانات البائتة، ليُضاف إليها قوافل لا تنتهي من القوافي والقصائد والمزادات الشعرية المفتوحة.
والغريب أنّ القفزة الثقافية النوعية التي تخطّت هؤلاء لم ترتقِ لتسجيل علامة زمنية فارقة، والأغرب أن يصبح الشائع والمُتداول من ثقافة اليوم هو ثقافة quot;الالتباس quot; بحدّ ذاته، حيث تحوّلت فيه المفاهيم بفعل الالتباس إلى جملة من الطلاسم العصيّة على الدقة والموضوعية والتحديد والوضوح والعلنية في مدلولاتها التضمينية، ومؤشراتها الحيوية الفاعلة والمؤثرة والمُتفاعلة في آن ربما، كونها خرجت من حاضناتها المنطقية ومناخاتها التأسيسيّة الشرعية الأولى، نظرا لما تعاقب عليها من فترات طويلة من الركود والخمول والتراخي والإحباط والخيبات والفشل، ناهيك عما رافقها من انحدار أخلاقي وانحطاط فني وتدهور اجتماعي وتقهقر اقتصادي لم تشهد مثيلا له حتى أكثر العصور ظلاما وضبابيّة، إلى أن بلغنا قمّة الإرباك وحسب الأجندة الأميركية بما يُسمى quot; الفوضى الخلاقة quot; التي ساهمت بتعميق الخلاف العربي- العربي، ومكّنت بعض الحكومات العربية من إحكام قبضتها بحقّ الشعب الذي أصبح يهاب مجرّد الشروع في التفكير بمبدأ التحرر أو الحرية بعد فشل التجربة العراقية، وهكذا خمدت معظم الأصوات الطموحة بالإصلاح والتغيير مستسلمة لسياسة ما يُسمّى quot;الأمر الواقع quot; الذي يقضي بأنه لم يكن بالإمكان أفضل مما كان، وكأننا بذلك نتنكّر لتاريخ إرادة الشعب العربي وجدواه في جعل النهضة العربية حقيقة ملموسة، تجلّت في أحلك الأوقات وكأننا قد بلغنا فعلا ما هو أحلك من أحلك الأوقات، إذ أنه لا يخفى على متتبعي السيرورة التاريخية للأمة العربية كمّ الحركات الداعية والمنتديات الناشطة، لتعزيز مفهوم quot;الوحدة العربية quot; وقتما تزامنت الدعوة إليها مع ظهور الحركات الإسلامية، وقد توفر رابط الدين وعامل اللغة، ثمّ ما لبثت أن تصاعدت حدّة الأصوات المُرتفعة تُطالب بانتهاء العهد العثماني إنصافا للعروبة وإكراما للإسلام، وما إن تنفّس العالم العربي بعضا من حرّيته، حتى كان الاحتلال الأوربي الذي عمل على تجزئة الأرض العربية إلى ممالك وأقطار، فتوسّعت دائرة النضال وتنوّعت حلقة الثورة بين مشرق العالم العربي ومغربه، وتوطّدت اللحمة الشعبية النضالية على امتداد الجغرافيا العربية، وهكذا توحّدت مشيئة الثوار العرب لطرد المحتل الغربي بكل أشكاله وأجناسه من كافة الأرض العربية، فكانت الشهادة وكان النصر وكان الاستقلال، كنتيجة حتمية لإرادة الأمة العربية الطامحة بصون الأرض وتوطيد فكرة الانتماء للوطن والأمة والإسلام والعروبة، ولم تقتصر الإرادة الثورية على من هم من الدين الإسلامي فقط، بل حرص الكثير ممن يعتنقون الديانة المسيحية أيضا في الدفاع عن عروبتهم والذود عن حمى الوطن، اعتبارا من عهد الحكم العثماني المُبَرِر الأول لانتفاضتهم وتماسكهم مع أبناء الوطن والأمة، وصولا إلى رفض الاحتلال الغربي الذي عمل على التحديث والتطوير في المنطقة العربية عن طريق البعثات والإرساليات والفرق التبشيرية، ومع ذلك ظلت فكرة الاحتلال قائمة وظلّت إرادة النضال والثورة تلازمها حتى كان للإرادة العربية ما شاءت بجلاء المُستعمر عن أراضيها، ولا ريب أنّ الشعب العربي الذي عانى ما عاناه في ظلّ الاحتلال المُتعاقب، أراد بعد مسيرة كفاح ونضال مريرين أن يركن إلى مبدأ الدولة ليدخل عهدا جديدا من الاستقلال والاستقرار، فأسلم قِياده إلى قبضة حكومات فتية أَولاها كما تشاء من الطاعة العمياء والثقة المطلقة، وابتلع على مضض غصّته القائمة وجرحه المفتوح على أثر نكسة حزيران ال/67/ ليقينه أنّ الحكومات العربية ستسعى جاهدة لإنقاذ quot;فلسطين quot; ورأب الصدع الكبير الذي تسبب في شرخ كيان الأمة، ولأجل ذلك عمل مستبسلا للتماهي مع إرادة تلك الحكومات الفتية أيّا تكن، والتسليم لمشيئتها مهما تكن، مؤمنا بمصداقيتها كيف تكن.


www.geocities.co/ghada_samman
[email protected]

اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه