يشكّل اللباس الإسلامي بحدّ ذاته، قيمة سيميائية دالة على الهوية الإسلامية، تتجاور مع جملة من العلامات الأخرى التي تستكمل نظام القيم الدال على الشخصية الإسلامية [أعني الشخصية التي تشكلت على وفق منظورات مجتهدة الإسلام الأصوليين الذين قولبوا الشخصية ونمطوها تنميطاً عجيباً لا مكان فيه للأخذ بعين الاعتبار مفاهيم: العقل والتحديث والتفاعل الحضاري] التي تُعنى عادةً بالقشور الخارجية مختزلة لبّ الرسالة الدينية في ما يسميه الفلاسفة: العرض لا الجوهر. ومع مرور الأيام، تحول اللب إلى محض لغوٍ يردد على الألسن بتحريفات أكثر سوءاً من تحريفات الأحبار وذلك تحت مسوّغ التأويل تارة، أو تحت تلفيق جملة من المسوغات الكاذبة التي يرفضها العقل السليم والحس الإنساني الفطري.
ولأن الإسلام ليس إسلاماً واحداً، إنما إسلامات داخل إسلامات أخرى، تنشطر على نحو لا حدود له؛ فإن هندسة الشكل الخارجي أو هندمة الجسد الإسلامي ضرورة من ضرورات توكيد الهوية التي تلح عليها المؤسسة الدينية في الإسلام الراعية لمنظومة القيم الإسلامية على نحو مطلق معزول عن هواء التغيير وقانون الحياة القائم على التطور. على هذا الأساس، لا تتحدد إسلامية المسلم نظراً لورعه ونسكه الداخلي غير المكشوف، بل لابد من تزويق خارجي: اللغة ذات التعبيرات الإسلامية الجاهزة، اللباس الذي يفتقد إلى التصميمات العصرية، مظاهر طقوسية حتى لو كانت وثنية، فكر خرافي، إيمان بالحتميات، رأي حدّيّ واحديّ متصلب لا يقبل التثنية مطلقاً، نزوع نحو العنف اللغوي والمجازي والحقيقي على حدّ سواء. كل هذه العلامات إنما هي محددات للهوية الإسلامية الشعبية. ولأن الإسلام الشعبي يمتلك رأسمالاً ضخماً للقوة، فقد أصبح هدفاً للجماعات الإسلامية السياسية التي اتجهت إلى قولبة الإسلام ضمن تلك المحددات الشعبية الدالة على الهوية.
والغريب حقاً، أن هذه الجماعات دائماً تلجأ إلى اختبار قوة رسالتها عبر القسوة المبالغ فيها على المرأة المسلمة، وتتجه تلك القسوة بشكل أساسيّ إلى جسد المرأة وغطاء ذلك الجسد. ولا تعتبر هذه الجماعات بعبرة تهتك المجتمع الإسلامي نتيجة الكبت والقمع والقسوة التي تُمارس ضده من جميع المؤسسات وعلى هرمها المؤسسة الدينية. المرأة في المجتمع الإسلامي كائن معطاء، لكنها ابتليت بعقل متخلف يفرض عليها قيوداً لا تدعها تساهم مساهمة فعالة في بناء نهضة اجتماعية في البلدان الإسلامية. لكن هذه الجماعات، شأنها شأن الأنظمة الدكتاتوية لا تهمها النهضة بقدر ما تهمها السلطة. وما بين هذا وذاك، ظلت المرأة في العالم الإسلامي عموماً تعاني من التهميش الدال على ذكورية مريضة، تفتقر إلى أبسط أخلاقيات حقوق الإنسان.
والحريم، ليس بالضررة أن يكون تطابقاً سوسيولوجياً لحالة وجدت في مرحلة من مراحل الدولة الإسلامية، بل هو بنية ذهنية تتفعَّل وتتنشط على طول تاريخ الدولة الإسلامية ولاسيما في المراحل التي تنشط فيها الجماعت الإسلامية المتطرفة التي تريد أن تمرر رسالة أخلاقية لطهرانية المجتمع المثالية. ومع أن هذه الجماعات تعرف قبل غيرها أن ذلك شيء مستحيل وغير واقعي، إلا أنها تصرّ على ممارسة عنفية تجبر المرأة على التقيد بمعايير سلوكية- ومنها اللباس- حتى وإن كانت لا ترغب فيها.
الجماعات الإسلامية في العراق [التي هي ليست جماعات ذات فكر أيديولوجي إسلامي بل مجموعة من الرعاع الذين تم تجنيدهم بأفكار سطحية ووُضِعَ بأيديهم السلاح والمال، وهي جماعات عميلة بامتياز لجهة غير عراقية أجنبية أو عربية] التي استوردت الفكر المتطرف بنسختيه: السنية والشيعية من خارج الحدود، فرضت اللباس الإسلامي الجديد بقوة الاغتيال العلني والرقص فوق رأس الضحية بـ: الله أكبر، الله أكبر. وهذا اللباس ليس عراقياً أبداً، ولا ينتمي إلى الموروث العراقي في الأزياء، بل استورد من ثلاثة مصادر: اللباس السلفي في الخليج، اللباس السلفي الشامي، واللباس الإيراني. اللباس السلفي يُخفي جسد المرأة تماماً، كنوع من انتقام التعويض عن الإسراف في الكبت الجنسي في مجتمع يعيش في ازدواجية الكبت والتهتك في آن. اللباس الإيراني، يسمح بكشف الوجه من أعلى الحنك إلى أعلى الحواجب؛ لذلك تسمى النساء المتشحات بهذا النوع من اللباس: المُحَنَّكات. وفي الغالب، تمّ تسييسهنّ واستقطابهنّ من قبل تيارات سياسية شيعية، بغية نشر الثقافة الإسلامية في اللباس وغيره، بعضهن يعملن مخبرات لهذه التيارات، وبعضهن يعملن لصالح المخابرات الإيرانية. ونجح الإرهابيون في تجنيد عدد من النساء لتفخيخ أنفسهن، والعمل على جمع المعلومات الاستخباراتية في الاغتيالات السياسية التي جرت في العراق، أو تنفيذ بعض التفجيرات.
لقد تعرض عدد غير قليل من النساء على الرغم من أنهن محجبات، إلى عمليات قتل لعدم تقيدهن التام بذلك اللباس الذي فرضته الجماعات الإسلامية لا الشرع الإسلامي التقليدي؛ بمعنى أن امرأة قد تُقتل مع التزامها باللباس الشرعي على وفق فقه أحمد بن حنبل نفسه مثلاً ومخالفتها لفقه الجماعات الإسلامية. وهو فقه مرتجل، يفتقر لأية مرجعية شرعية، يقصد من ورائه تحقيق غايات سياسية في المقام الأول. ولتحقيق هذه الغايات، كُتبتْ على الحيطان في مناطق مختلفة من بغداد، عبارات تحذّر النساء بالقتل إذا لم يتقيدن بأعراف اللباس التي اشترطتها الجماعات الإسلامية المتطرفة، وقد قرأت عدداً من هذه العبارات في جانب الكرخ، من قبيل:
كل من تلبس البنطلون ساقطة.
ستقتل كل من لا ترتدي الحجاب الإسلامي.
يمنع قيادة السيارة من قبل المرأة.
وقد روت لي صديقة إعلامية معاناتها ببغداد، ورعبها الدائم هي وأهلها منذ لحظة خروجها للعمل حتى عودتها، وذلك لسببين: الأول كونها إعلامية، والثاني كونها سافرة وترتدي الجينز أحياناً، مما أجبرها على ترك عملها. تقول: [غادرت العراق بعدما استنفدت كل طاقتي لإقناع أهلي بالبقاء؛ لأني أحب عملي جداً وكنت أشعر بمتعة العمل في بغداد رغم كل شيء. لكن استهداف الصحفيين والإعلاميين ضاعف خوف أهلي عليّ ولهذا طلبوا مني ترك العمل والمغادرة، فاضطررت للرضوخ لرغبتهم لأن الأمر يتعلق بحياتي مما سبب لهم ذعراً كبيراً].
وفي منطقة أبو غريب، التي تخضع لسيطرة الإسلاميين المتطرفين، وقع عدد كبير من حوادث القتل لشابات محجبات وملتزمات بالزي الإسلامي لكنهن كنّ يرتدين التنورة الطويلة بدلا من الجبة الإسلامية. واختُطِفَ إلى الأبد عدد من الصبيان في شاحنة نقل متوسطة، في منطقة الحرية، بسبب ارتدائهم الشورت القصير في أيام القيظ الذي تتجاوز درجة الحرارة فيه 47 درجة مئوية. وفي مدينة الصدر، كان يستعمل المسدس الكهربائي من قبل مليشيا التيار الصدري ضد النساء غير المحجبات أو ممن يرتدين لباساً لا يروق لأمزجتهم. وهذا المسدس، على نحو ما روت إحدى العاملات في منظمات المجتمع المدني، يصيب المرأة بنوع من الشلل المؤقت يتمكن من خلاله المتشددون من الاعتداء على المرأة بالضرب حتى تتعهد بارتداء اللباس الإسلامي على وفق شروط هذه الجماعة. وكان هؤلاء يعيثون في الأرض فساداً، فكم من مرة اعتدوا فيها على طالبات في كلية الإدارة والاقتصاد وفي جامعة بغداد والجامعة المستنصرية، ومن الغريب أن هؤلاء لهم غرفهم الخاصة المظلمة التي تحلّ لهم إباحة المحظور.
ولم تنج من هذا التشدد حتى نساء الديانات الأخرى، ولاسيما في مناطق الكرادة وزيونة والبتاوين الآهلة بالسكان المسيحيين الذين أجبروا على مغادرة منازلهم، مما انتزع من بغداد الطابع الجمالي الذي كانت تتحلى به هذه المدينة يوم كانت عاصمة الموضة منذ النصف الأول من القرن العشرين، فمنذ العام 1947 كانت تجرى فيها مسابقات ملكات الجمال، إذ فازت في هذه السنة شابة بغدادية تدعى: رينيه دينكور.
وعبر تاريخ الدولة العراقية الحديثة، كانت المرأة العراقية منخرطة في كل المهن والوظائف، وأحياناً تكون نسبة النساء أكثر من الرجال في بعض المهن ولاسيما في الأسواق الشعبية. ومع أنها كانت واجهة من واجهات الكوارث التي مرّ بها المجتمع العراقي، لكنها لم تستسلم لهذا الواقع القاسي بل انطلقت تعمل وتبدع وتنفجع وتبكي وترتجل المراثي وتكثر من البنين والبنات ويحصد الموت الأعمى الذي ظل طريقه في أرض الرافدين كلَّ ما أنجبت وستنجب.
ومن يقرأ تاريخ المرأة العراقية عبر كل تلك العقود سوف يقف عند إنجازات متميزة في مجال الثقافة والفن والأدب والتعليم والعمل والسياسة والتجارة. وعُرفَ عنها المهارة والتفوق والأخلاص في العمل، ولم تترك عملها حتى في أقسى الظروف المرعبة الملتهبة بين الاغتيالات وأزيز الرصاص وغبار المفخخات. ومع تنامي قوة المسلحين الإسلاميين الإرهابيين، ظهرت نزعة متشددة تدعو إلى فصل النساء عن الرجال في العمل والدراسة.
لقد وقعت النساء بالعراق في قبضة المجرمين الذين يجوبون الشوارع تحت راية lt;lt; الإسلامgt;gt; ويروي كثير من الناس أن رؤوس هذه الجماعات، إنما هم من ذوي السوابق والتاريخ المتهتك، وشخصياً أعرف قياديين إسلاميين من ذوي التاريخ الشخصي غير النظيف. لعل ذلك يشير دلالياً، إلى ازدواجية نظام السلطة في المجتمع العراقي والعربي عموماً.
ولم يميز هؤلاء الإرهابيون بين الطفلة الصغيرة والمرأة الكبيرة، فبادروا إلى إجبار تلميذات المدارس الابتدائية على ارتداء الحجاب أيضاً، ومن لم تتحجب سوف تتعرض للقتل لأنها لم تلتزم بالزي الإسلامي الذي فرضته هذه الجماعات المريضة.
[email protected]