ألست وعدتني ياقلب إني إذا ما تبت عن ليلى تتوب
فها أنا تائب عن حب ليلى فما لك كلما ذكرت تذوب

عمد الزعيم عبد الكريم قاسم ممازحة الشاعر حسين مردان، فطلب منه الجلوس على مكتبه الخاص، وبعد إلحاح الزعيم، لم يجد الشاعر سوى الصياح فزعا: ((سيادة الزعيم صرت أشعر أن سقف الغرفة يمطر رصاصا)). وهكذا هي أحوال سقوف البنايات والبيوت والمكاتب في العراق، لا يصدر عنها سوى الرصاص! ترى هل كان حسين مردان مبالغا، باعتبار خصوبة خيال الشاعر فيه، أم تراها شحنة التداعيات التي تختزنها لحظة الممارسة الانتقائية، باعتبار تحديدها المجزوء ذلك الذي يقوم على (صراع الدلالات) بحسب تقويم ماكس فيبر. هي لحظة لقاء بين جنرال عسكري وشاعر، الأول مترع حد الثمالة بالقوة حيث المسدس والبندقية والدبابة والطائرة المقاتلة، والثاني لا يملك من حطام الدنيا سوى رأسمال رمزي قوامه الصور الشعرية، فيما يتبدى الوسيط التداولي عبر منظومة (الضحك) ، كان الطرفان يضحكان من الأعماق، حتى قيل أن الزعيم أخرج منديله ليجفف دموع عينيه، بعد موجة الضحك الهستيري التي ألمت به.هذا يضحك متهما الشاعر ، بالوهن والخوار والعجز، وذاك يضحك مدافعا ومنافحا عن ذاته المحاصرة ، بكل هذا الزخم من القوة، تلك التي تتبدى فيها السلطة بوصفها عنفا ورصاصا. الزعيم استوحى الحكاية القديمة، حيث حلم الحصول على السلطة لمدة يوم واحد، فـ أحالها إلى حلم الحصول على السلطة لمدة خمس دقائق! والشاعر استحضر جهازه الدفاعي ليبعد عنه شبهة الحلم بالسلطة، إنها حكاية الشغف بالسلطة تلك التي تتبدى في الأسبقيات التي تلح على العقل، باعتبار الشرط الذاتي ، ذلك الذي ترصده جورج بيكون في (أوهام السوق) عبر تجليات اللغة والدلالة.
بلاغة الرصاصة
في أواخر ستينات القرن العشرين ، انتشرت في بغداد ظاهرة الإقبال على راديو الترانستور الصغير ذي الغلاف الجلدي، وعلى الرغم من الوظيفة الأصلية المعدة لهذا الجهاز باعتبار الاستماع للمحطات الإذاعية ، إلا أن عقلية الصراع ، لم تتوان عن إضافة وظيفة جديدة ومبتكرة ، تمثلت في تمنطق المزيد من الشباب المراهق لهذا الجهاز في وسط الحزام ،لإيهام الناس بأنه يحمل مسدسا، بعد إسدال القميص عليه. إنها ثقافة الإيهام بالرجولة والشجاعة والقوة، تلك التي تحيل عادة إلى نموذج (خلف بن أمين) الذي كان يتوسل الشرطة أن يمروا به في زقاقهم مقيدا، من أجل لفت الأنظار إليه! باعتباره نموذجا لـ (الأخو خيته والسبع والنشمي).
فمتى يكون العراقي(سبع ونشمي وخوش ولد)؟ في سجن رقم واحد سيء الصيت ، تعرض أحد المعتقلين إلى الضرب المبرح، ومن شدة الآلام اضطر الرجل للبكاء، فما كان من زملاء الزنزانة، إلا أن يزجروه ويعنفوه، باعتبار أن السجين السياسي لا يمكن له أن يبكي، فالبكاء من عادات النساء لا الرجال.لكن الرجل استمر بالبكاء من شدة ما ألم به من وجع، وهكذا هي الحال من يتوجع عليه أن يكون في الخلف، باعتبار أن السياسة قدر الأقوياء الأشداء من ذوي الصلابة والقدرة على المطاولة. فإلى أين يمكن أن تقود تلك الصلابة؟ إنها توزيعة القوة تلك التي تقوم على نسق العنف، باعتبار كم التحديد الكامن فيها لإبراز السمات التوليدية فيها، وهكذا يتم إعادة إنتاج العنف، عبر التجذير لمضمون النسق الاختزالي، وتمييز سمات الفوارق الوهمية، فما يتبدى قد يتمظهر في صورة أخرى مخالفة ، لكن الواقع يبقى يشير إلى رسوخ مضمون ثقافة الإلغاء والتهميش والإقصاء، إنها سلسلة العنف والعنف المقابل، والإضطهاد والإضطهاد المقابل، و كل شيء و كل ما يقابله، في تساو قوامه الثأر ولا شيء سواه.
الضاحك والباكي
من بكى يريد أن يبكي من أبكاه، ومن أذل يريد أن يذل من أذله، وهكذا يتمفصل الموضوع العراقي بين ثنائية (التاريخ و إرادة الفعل)، التاريخ ومعيقه المتمثل في تسرب العقلية الأسطورية وأحلام اليقظة وأوهام الهيمنة والسيطرة والجاه والثروة والنفوذ وقطعان الحمايات الجامحة تلك التي تصرخ (بالك سوي طريق)، وإرادة الفعل تلك التي يمكن أن تتمثل فيها جل الطموحات نحو التغيير والتحول، إلا أن المعيق يبقى يترصدها في هذا (المكبوت) حيث العقد الذاتية ومركبات النقص و (الجوع القديم)، والنهب والفساد والرشوة وتزوير الشهادات ، وقتل الكفاءات وعزلها وتشريدها، والكراهية والضغائن والتحاسد والتباغض والأحقاد الدفينة والغيرة البائسة والتفاهة والبؤس الشخصي والثقافي.
هذا هو عراق الراهن حيث (التأثر) بالغالب والمغلوب، فيما تنكفيء ملامح التحولات وتذوي وتغور بعيدا في الزوايا المطمورة، فالأخطاء والأوهام تبقى متسيدة على كل غاية تنقيحية أو معالجة نقدية، إنه سياق الاضطراب النابذ للتصور العميق والرصين، وهو رهان الأمن الغائب بإزاء تراجع مشروع الدولة الحضاري، وهي الرؤية الديمقراطية الخراجية والليبرالية الطوائفية الساعية وبجدية ملفتة نحو نبذ الثقافة، وهي تحديات (يابان الشرق الأوسط) فيما التآكل ينهش المنظومة القيمية للمجتمع، وهي المتغيرات المفاجئة والمفجعة والبئيسة، بإزاء العالم الذي يصطخب اليوم بالثورة الإنفوميدية والحضارة الرقمية.
لقد ضحك الزعيم فكان تعبيرا عن الوهم بالقوة، وضحك الشاعر فكان التعبير عن الوهم بالخلاص من المأزق، فيما يبقى الطرفان الزعيم والشاعر وسط هذه اللجة من تشكلات الوعي الجمعي والذهنية الراسخة ، الساعية نحو تمجيد ثقافة الخراب والحلم بأكل الكباب!!! فهذا هو العراق، بواقعه الذي يقوده المتخيل السائد، وتاريخه الخاضع لهيمنة السرد، هذا بحساب أن الأطراف المتصارعة برمتها تسعى نحو تجهيز شروطها، وإسباغها على شروط الموضوعية، إنها الموضوعية تلك التي يمكن أن تتلمسها في الفضائيات التابعة للفرق والطوائف والتحزبات العراقية، حيث المسعى إلى جعل العالم فكرة شديدة الخصوصية.