هل عندنا حقا رأي ولكن لا نملك الحرية للتفوه به؟
ومشكلتنا بالتالي هي مشكلة وعي متفوق ممتاز لا يجد قاعدته من الحرية؟!
أم أن نفس الحرية ومادتها من نفس الوعي ومسؤوليته؟ أي أننا لا حرية لنا لأنه ليس عندنا ما يستحق أن نتفوه به؟ طالما كان التفوه معناه قتل الآخر وتصفيته وإزالته من الوجود، نزع ماله وسلطانه أو روحه! وهذا ليس برأي ولا بحق، فلهذا لا حرية لنا، لأننا بإلغاء الآخر ألغينا أنفسنا، بآلية الإعدام والإلغاء المتبادلين .
يمكن أن ننظر الى المشكلة ورؤية الحق في ضوء جديد.
هل يمكن أن نرى الحق في حل المشكلات وليس خلقها؟! هل يمكن أن نتصور أن نتقدم بحل لا يخسر أحد فيه شيئاً ويربح الجميع؟ أم أن التصور يقوم على إيذاء الآخر وتطهير الأرض من شره واعتباره خبيثاً نجساً شريراً؟!
عندما ضرب الله مثل الأمم السابقة في القرآن كان يهدف تقريب الأمثلة الى أذهاننا، وعندما تكلم عن إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، كان يعني العصر الذي سادت فيه وشمخت ثم مالت فهوت، وإن ما يحدث الآن من الاتحاد الأوربي لم يحدث له نظير في تاريخ الجنس البشري حتى الآن، فهو خلق جديد وتطور حديث سلمي يربح فيه الجميع ولا يخسر أحد شيئاً.
إن المطالبة بالديمقراطية قد تحمل في طياتها بعض الخسائر لبعض الأطراف، فقد يكون من الحكمة أن نبدأ بمستوى لا يخسر فيه أحد شيئاً لا مال ولا زعامة ولا أرضا، وإنما يربح الجميع ويزدادون قوة، بحيث نمهد للأمن الاجتماعي بترسيخ خطوات لاحقة واعدة ومبشرة أكثر.
إن التاريخ يقدم لنا أحداثاً عجيبة، فعندما تعاون العرب في عام 1973 تزلزل العالم واعتز العرب وغلا بترولهم، وعندما تنازع بلدان عربيان تصدع العالم كله ولم يلتئم بعد، بل وضاع الثاني العراق حتى حين، وخسر العرب وربح الآخرون كل شيء، وليس عندهم خوف إلا أن يكون سببا ليقظة العرب.
فكان لابد لنا من طرح أفكار نقية معقمة راسخة مفكر فيها كثيرا، لأن الوضع يقتضي طرح رؤى جديدة والتبشير بالدخول الى حالة الأمن العربي.

إلغاء ثلاث بثلاث
يجب أن نعتمد ثلاث آليات نفسية ونلغي ثلاث بثلاث:
ـ التحرر من العنف يحرر من الخوف.
ـ وتأكيد مفهوم السننية يحرر من الخرافة.
ـ والإيمان بلا إكراه في الدين يحرر من المنازعات.
ينبغي أن تعترف كل الأطراف ولو باحتمالية حدوث الخطأ، وهذا ينسحب على المثقف أكثر من السياسي.
المثقف ينبغي أن تكون عنده قدرة مراجعة النفس، واعتماد آلية النقد الذاتي وتحرير التوبة.
إن الأمر يحتاج الى حذق شديد، ولكن الطب الجسدي يقدم أمثلة عظيمة للطب النفسي.
إن الفكرة الأساسية الأولى التي ينبغي أن ننطلق منها أن نتعاون على كشف الحل بدون خسارة أحد، فهذا الذي يقول الله عنه وتواصوا بالحق.
إن كشفاً صاعقاً من هذا النوع يريح ويربح منه الجميع؛ فالحق ليس أن تأخذ من الأول لتعطيه للآخر، ولكن أن تدل الجميع على شيء نافع.
يظن البعض إن قول الحق صعب ولكنه في الواقع سهل، بشرط أن نفهم طبيعة الحق، فالحق لا يريد قتل أحد، أو إيذاء أحد، وهو تصور انقلابي في العلاقات.

جدلية الحق والباطل
يظن البعض أن الحق يجب أن يقتل الباطل، ولكن لا نحتاج لتوليد الحق أن نقتل الباطل، كما لا نحتاج لشفاء المرض بقتل المريض، فمجيء الحق يؤذن بزوال الباطل، وقل جاء وما يبدي الباطل وما يعيد، وعند مجيء الحق يزهق الباطل تلقائياً.
إذا حضر الحق مات الباطل موتاً طبيعياً، بموت الفكرة الباطلة مع بقاء صاحبها على قيد الحياة، كما يتعافى المريض ويبقى على قيد الحياة وقد تخلص من المرض ونشط من عقال.
لابد من التفكير في الحق كثيرا، لأنه يمكن قوله حينما يتشكل الانسان من عجينته فلا يخاف، والحق لا يحرض آليات الخوف عند أحد، ويمكن قوله في كل مكان وزمان، وكذلك حرية الرأي؛ فالإنسان حينما يكون عنده رأي ينفع الجميع ولا يضر أحداً يكتسب حرية حركته آلياً؛ فنحن لا أفكار عندنا من هذه النوعية، ولو امتلكنا ثقافة من هذا النوع لنشرنا أفكارنا في كل مكان، لأن الرأي والحق والحل غير الخاسر يمكن قوله؛ فلا يمكن اعتقاله ومصادرة حريته ويمكن نطقه.
أما الممنوع فهو السب والدعوة الى القتل، وهذا ما يجب أن نتجنبه ولو سمح به، فلابد من فهم هذا الموضوع بعمق ووضوح مبين، وبشكل معقم، من الطمع في سلب أحد شيئاً مما يملك.
ويتصل هذا الموضوع الدعوة الى منع القتال بين المسلمين، حيث لا يوجد الرشد، وإنما الجميع يسبح في ثقافة الغي ومشرب بمفاهيم العنف ، ولا يفضل غي على غي، وإنما يفضل رشد على رشد.
فهذه هي طرف من أسرار الرأي وحريته، فنحن الذين نأسر الرأي، ونحن الذين نطلق سراحه بما كسبت أيدينا.
وظهر الفساد في البروالبحر بما كسبت أيدي الناس.