فاز الرئيس محمود عباس (ابومازن) في الإنتخابات الرئاسية الديمقراطية الأخيرة بنسبة كبيرة من الأصوات، وعلى الرغم من وجود مرشحين آخرين، إلاّ ان الغالبية الساحقة قد صوتت له. ان البرنامج السياسي الذي طرحه واعلنه ابو مازن اثناء حملته الإنتخابية كان واضحاً وهو مكوّن من عدة اهداف اهمها كان، التوصل الى هدنة مع اسرائيل بغية وضع حد للدمار والفوضي الذي كانت المناطق الفلسطينية ترزح تحت ثقله، واعادة الحياة الى العملية السلمية المجمدة، والتوصل الى تفاهم وطني واجماع الفصائل المختلفة على الإلتزام ببرنامج موحد في المرحلة التي تلي عملية الإنتخابات، بحيث يؤدي الى سيادة القانون وتوحيد الأجهزة الأمنية وتوليها المسؤولية الأمنية بصورة كاملة. اذن الشعب الفلسطيني صوت بأغلبيته الساحقة لهذا البرنامج، فلا يعقل ان يكون هذا التصويت لشخص ابو مازن وحده، بغض النظر عن وزن هذا الشخص السياسي والوطني، لا سيما وان المرشحين الآخرين ركزوا في حملاتهم الإنتخابية على برامج مختلفة، لا بل ومغايرة ايضاً لبرنامج ابو مازن الإنتخابي.
بعد فوزه في الإنتخابات نشط الرئيس ابو مازن للعمل على تنفيذ برنامجه ووعوده الإنتخابية، فجاءت جملة اجراءات هامة وجدية لاسيما على الصعيد الأمني الداخلي، مما ادى الى خلق الأرضية المناسبة للبدء بتهدئة مع الجانب الإسرائيلي الذي كان بالأساس يعد لعرض خطة انسحاب من اراضي فلسطينية واقرارها بغية تنفيذها، وهو حدث فيما بعد. فبدى ان الوضع يتجه في اتجاهه الصحيح الى ان جاءت العملية الإنتحارية التي قتلت وجرحت عشرات الإسرائيليين في تل ابيب مؤخراً، والتي جاءت لتضع الوضع بأكمله على المحك. مشكلة هذه العملية هي انها جاءت في لحظة موبوءة وخطيرة ومتوترة جداً، وذلك بسبب جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في بيروت قبل اقل من اسبوعين، مما جعل الأبواب مشرعة على مصراعيها امام الكل لكي يتهم. وكالعادة جاءت ردود الفعل سريعة وبدوافع سياسية واضحة، والغريب ان كل الأطراف التي كان يمكن ان توجه اليها اصابع الإتهام سارعت الى بيان موقفها القاضي بعدم تورطها في العملية الانتحارية. لم يطل الوقت حتى اطل كالعادة شخص ما ليعلن مسؤليته عن تنفيذ العملية، والغريب ان خطاب هذا الشخص تجاوز حدود التهجم على اسرائيل لكي يصب جام غضبه على السلطة الفلسطينية، وقد اعلن هذا الإنتحاري عن انتماءه لسرايا القدس وهي الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي التي اعلنت من قبل نفيها التورط في العملية، مما فتح الأبواب مشرعة امام اسرائيل لكي تأخذ كامل الحرية في تعاملها مع الفلسطينيين، وهو ما لم تنتظر اسرائيل طويلاً لكي تقوم به. في الجانب المقابل اتهم الرئيس ابو مازن ما سماها جهات ثالثة، وتعهد بالتعامل معها وعدم فسح المجال امام تهديد مصالح الشعب الفلسطيني وطموحاته. الحقيقة هي ان هذا هو اصعب اختبار يمر به ابو مازن وذلك بعد ان توصل رئيس وزرائه ابو علاء من الحصول على ثقة المجلس التشريعي الفلسطيني للمصادقة على حكومته وبتلك الصورة الدراماتيكية. على نتائج هذا الإختبار يتوقف الكثير بالنسبة لسلطته، لا بل ولكل مشروعه الذي انتخبه شعبه ، وايده العالم لكي يقوم بتنفيذه. انه يقف اليوم على مفترق طرق كان لابد له ان يواجهه في يوم ما. وبعيداً الإتهامات والإتهامات المتبادلة، وبعيداً عن متاهة الفاعل الحقيقي والأسئلة التي ربما لن تؤدي قريباً إلاّ الى المزيد من الغموض، فإن ابو مازن مسؤول مسؤولية كاملة عن الوفاء بالتزاماته، اولاً امام نفسه، وثانياً امام ناخبيه، وثالثاً واخيراً امام خصومه و اعداءه وكذلك المجتمع الدولي. في هذه اللحظة بالذات يقف ابو مازن امام ذات اللحظة التي وقف على اعتابها الرئيس الشيشاني المنتخب (اصلان مسخادوف) متردداً مذعوراً لا يقوى على الإرتقاء الى مسؤولياته الجسام في قيادة بلده وشعبه في تلك اللحظة الحاسمة. بعد ان عجز مسخادوف عن القيام بمسؤولياته تحولت بلاده الى خرابة واضطر هو الى الهرب. لم يحسم مسخادوف امر السلطة في البلاد، فضاعت سلطة القرار،وكذلك مصير البلد بينه وبين الإرهابيين. فهل سيكرر ابو مازن نفس الخطأ القاتل الذي ارتكبه مسخادوف بحق شعبه الذي صوت له في انتخابات ديمقراطية، ام ان العكس سوف يحصل في القضية الفلسطينية، ويحسم ابو مازن خياراته وقراراته بمنتهى الشجاعة التي حارب بها اعداءه لسنوات طويلة؟ لكن المشكلة هي ان ضريبة مثل هذه القرارات لن تكون سهلة ، بل هي ستكون باهضة بعض الشيئ، ولكن الحقيقة التي يجب ان لا تغيب عن البال هي ان ضريبة التهاون والتساهل مع مثل هذه الأعمال التي ستؤدي الى المزيد من الخراب السياسي والأمني لفلسطين ستكون كارثية الى درجة مدمرة، لذا على ابو مازن ان يكون حازماً وحاسماً، اذ ان اي فشل في هذا الأختبار الأولي سوف يفتح باب العاصفة، وفي المقابل فإن اي نجاح سيكون بمثابة التأسيس لبناء دولة مؤسسات حقيقية وسيادة القانون.مما سيؤدي الى السير في طريق السلام وتحقيق طموح وحلم الشعب الفلسطيني في تأسيس دولته الحرة المستقلة.
التعليقات