الفرق بين حقيقتين: اغتيال كرامي واغتيال الحريري

مفارقة عجيبة تلك التي نشهدها اليوم: مظاهرات مليونية تطالب بكشف حقيقة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق المرحوم رفيق الحريري، ويعدّ ذلك الاغتيال جريمة إرهابية منكرة، ثم تُنصب خيام، وتسقط حكومة، وتُمنع اخرى من التأليف ويستتبع ذلك اعتذار الرئيس المكلف، وتتحرك الامم المتحدة، ويصدر عنها قرار، وتؤلف لجنة تحقيق دولية وتحضر الى لبنان وتكتب تقريراً، واخرى تستعد للقدوم اليه وكتابة تقرير آخر، الخ.. إنه حدث جلل، او هو زلزال كما وصفه بعضهم.
وفي المقابل حقيقة مكشوفة يراد تجاهلها هي اغتيال رئيس وزراء لبنان المرحوم رشيد كرامي، وبدل ان يعدّ ذلك الاغتيال عملاً ارهابياً، نرى من يطالب بالعفو عن مرتكبه، ويتظاهر من اجل إقرار ذلك العفو، معتبراً معاقبة مرتكب الجريمة جريمة منكرة، مهدداً بجمع إحدى الطوائف في مؤتمر ينظر فيه الى وضعهم في لبنان. فكيف، يُعقل ذلك: جريمة يُراد لها أن تهزّ اركان لبنان والعالم أجمع، وان تدخل تحت باب الارهاب، واخرى يُراد لمرتكبها ان يخرج من السجن بطلاً ويُعوّض عليه بمنصب قيادي في الدولة، مع ان الجريمتين متماثلتان!
وقد نفهم سبب حماسة أنصار القاتل لذلك، ونفهم حماسة من يستغلون الامر انتخابياً وطائفياً، لكننا لا نفهم كيف يتحمّس له تيار سياسي سائر في زعمه على خطى الحريري، ويراه واجباً وطنياً. إن ذلك يُلقي بظلال كثيفة من الشك على مظاهراته، هو ومن أيّدوه، لأن الحق أبلج، والباطل مدلج، وبينهما امور مشتبهات، وهذا من المشتبهات. ولماذا التعب إذن في البحث عن الحقيقة، وهو بحث يطول، ما دامت الحقيقة الظاهرة محل إهمال، والمصالحة الوطنية ذريعة دائمة للعفو عن القتلة ولتبويئهم مراكز هامة في الدولة؟

إنهم بدل أن يطالبوا بالكشف عن كل الجناة الذين قتلوا كمال جنبلاط ورشيد كرامي وحسن خالد ورينيه معوض وأمثالهم، بعد ان تحرّر لبنان وغدا قادراً على العمل القضائي العادل، بمعزل عن الضغوط الخارجية، نراهم يقومون بأسوأ مما كانوا يفعلونه تحت الوصاية، ويحتجون بأعذار أسوأ من الذنوب، كقولهم إن جعجع سُمّي عضواً في حكومة عمر كرامي، وأن حبيقة كان وزيراً في بعض الحكومات، وأن رؤساء الميلشيات أحرار وبعضهم تولى مقاليد الحكم. ونسوا أن ذلك حدث بغير إرادة اللبنانيين، وأنه ليس محل قياس، بل ينبغي بعد تغيير الاوضاع اللبنانية تبديل السلوك السياسي والقضائي. بل أقول أكثر من ذلك: إن العفو العام عن الأعمال غير السياسية المجردة جريمة في حق الضحايا وأهاليهم، فكيف اذا انقلب العقاب الى مكافأة؟ ما ذنب أهل الضحايا حين يحكمهم القاتل المجرم ويُمنح الألقاب والسلطات، وتُعزف له الموسيقى وتؤدى له التحية؟ ينبغي على الأقل ان يستتر القاتل لا ان يصبح نجماً سياسياً، وذلك عملاً بقول المثل: lt;lt;إذا ابتُليتم بالمعاصي فاستترواgt;gt;.
إن هناك محاولة دائمة لتمييز إحدى طوائف لبنان على غيرها، حتى إنه حين طالب وليد جنبلاط باستقالة رئيس الدولة، رفض أكثر أبناء طائفة الرئيس ذلك، حفاظاً على قدسية الرياسة، على حين ان رياسة الوزارة محل عبث دائم، بما يجعلها خلواً من القيمة.
ولا أحد ينسى كيف ان أمين الجميل، عندما انتهت ولايته، عيّن قائد الجيش رئيساً للحكومة، في الربع الساعة الاخير من عهده، حتى لا تتولى البلاد حكومة على رأسها غير ماروني، وكأن الموارنة وحدهم محل ثقة، وكأنهم طبقة مختارة لا يجوز لأحد أن يتجرأ على الحلول محلها ولو بصورة مؤقتة، فكان في ذلك إهانة لأكبر طوائف لبنان، وجرّ الويلات على الوطن. ولا أحد ينسى كذلك كيف جعلت نسبة المسيحيين إلى المسلمين في المجلس النيابي قبل تعديل الدستور، 6/5. بل لو أحصينا عدد المنفّذ بهم حكم الإعدام، لوجدناهم جميعاً من طائفة واحدة، وما كدنا نجد اي معدم من الطائفة الأخرى، وكأن تلك الطائفة شعب الله المختار ولا يجوز إعدام أبنائها، او نسبة الجريمة اليهم، وذلك لتبقى فوق الشبهات اجتماعياً وحضارياً.
ومن هنا نفهم سبب اعتراضهم على صدور عفو عام عن معتقلي الضنية والبقاع، وحرصهم على حصر العفو بجعجع، مع ان جرائم جعجع ثابتة، على حين ان جرائم اولئك محل شك شديد، وهي بمثابة بيع رؤوس أبناء الوطن لأميركا، وفق ما أوحى به طلال سلمان في بعض مقالاته بحق. بل اكثر من ذلك، لا يكاد فريق كرة سلة مقيم في المنطقة الغربية يفوز ببطولة لبنان او يكاد حتى تنهال عليه القوى الأمنية بالضرب، وكأنه لا يجوز ان يكون التفوق لغير شعب الله المختار.

أما تيار الحريري، فمع الاستنكار الشديد لجريمة اغتيال رائده، بل بسبب ذلك الاستنكار نفسه، لا يجوز له تجاوز حق الطائفة في طلب معاقبة قاتل ممثلها في الدولة الطائفية الراهنة، وإلا فإن عليه ان يتنازل عن المطالبة بمعرفة الحقيقة. كما أنه لا يحق له ادعاء تمثيل تلك الطائفة في المطالبة بالعفو عن جعجع، ولا بادعاء التسامح باسمها، فلا أحد يمثلها في هذا الشأن، ولا أحد يمثل، حقوقياً، أهل القتلى خاصة، وأهل رشيد كرامي على الأخص، إلا انفسهم، ولن يفضي موقف التيار من القضية الا الى إضعاف هيبته ووضعه الجماهيري.
وفي مطلق الأحوال، فإن الاستخفاف بمشاعر الطائفة، وتحدّيها بمرافعات سفسطائية، والتهويل بمؤتمر طائفي مضاد، كل ذلك لن يكون مساعداً في إقرار السلم الأهلي، ولا المصالحة الوطنية. فالمصالحة تكون بين الأسوياء، وهي قائمة بينهم فعلا بغير منّة او وساطة، أما المصالحة بين القاتل والقتيل فذل واحتقار، ولا يمكن ان تتم فعلياً وبصورة نهائية. ونحن نريد لبنان وطن اسوياء لا وطن قتلة، وحسبنا ما عانيناه من حكم القتلة إبان الوصاية.
ومن سخرية الساسة اللبنانيين ان احدهم يقول لك: أنا لا أحب الكلام في الطائفية، لكنني في الوضع الطائفي الراهن أطالب بإسناد هذا المنصب لهذه الطائفة دون غيرها، ويكرر الآخر الاسطوانة نفسها، وكأن كراهية الطائفية تسمح بالعمل الطائفي الفجّ. إنه تذاكٍ مكشوف ليس بعيداً من الغباء، ومن المؤسف ان بعضهم يظنّ انه يستطيع ان يسخر من الآخرين ويستغبيهم، حتى إذا وجدهم متيقظين اتهمهم بخيانة العهود، والانقلاب على الصفقات، وتهديد الوحدة الوطنية والاستقلال والسيادة، وكأن كل تلك المبادئ لا تتحقق الا اذا انطلت الخدع على طائفة من المواطنين.
ومن تذاكيهم طلب تخلية جعجع لتحقيق المصالحة الوطنية، والسعي الى إقناع حزب الله بالتخلّي عن سلاحه بنفسه، وتجريد الفلسطينيين الذين ذبحتهم إسرائيل والقوات اللبنانية من سلاحهم، والزعم ان وجود هؤلاء الفلسطينيين في لبنان وتأمين حقوقهم المدنية مخالفان للدستور لأنهما توطين، ثم lt;lt;يبقّون البحصةgt;gt; فيعلنون ان بقاء الفلسطينيين في لبنان يخلّ بالتوازن الديموغرافي، اي يزيد عدد إحدى الطوائف الكبرى، ولذلك يطالبون بتهجيرهم، متجاهلين من جنّسوا من الفلسطينيين ذوي الانتماء الطائفي المعروف.
وهم يطالبون في الوقت نفسه بمنح المهاجرين اللبنانيين الحق في الانتخاب في الخارج، على الطريقة المتبعة في الدول المتقدمة، زاعمين ان عددهم هناك هو أضعاف أضعاف المقيمين، ظانين ان الناس تجهل الحقيقة، وهي ان كثيراً من الاجانب او العرب منحوا الجنسية اللبنانية او زعم انهم يستحقون تلك الجنسية، وليس لهم اصل لبناني ولا يعرفون لبنان، وإنما أريد بهم تكثير إحدى الطوائف اللبنانية ليس غير.

آن للساسة التقليديين ان يدعوا سياسة التذاكي والاستغباء والاستعلاء، والإيمان الواعي او اللاشعوري بالاتفاق المؤقت بين اللبنانيين، الذي يمكن ان ينقض عند هبوب أول ريح مواتية. ان هذا النمط من التفكير هو الذي أدى الى انفجار الازمات المتوالية في هذا البلد المسكين، ولولاه لكان لبنان اليوم أفضل مما هو عليه بكثير، ولتغيرت النظم، ولا سيما نظام الانتخابات، ولرأينا في المجلسين شباناً، وكهولاً شرفاء أذكياء مخلصين، بدل الإقطاعيين السياسيين الهرمين، المخرّبين رغم تقدّم سنيهم.
هذه هي الحقيقة، وهي التي قتلت جنبلاط وكرامي، والآخرين، وصولاً الى رفيق الحريري، وتجاهلها يسهّل وقوع جرائم أخرى، ربما أكثر بشاعة، ولا ندري إن كان بعضهم يعلم ان إحدى تلك الجرائم ربما اريد بها في المستقبل كتابة نعي الدولة اللبنانية، لا قدّر الله.

() باحث وأستاذ جامعي