لا يمكن بطبيعة الحال الحديث عن جنون طيار الاباتشي أو الF16 أو سائق الدبابة... لا يمكن الحديث عن جنون الساسة في الجانب الاسرائيلي ولا عن جنون الساسة الفلسطينين، ولا جنون ساسة العالم، فكل هؤلاء أبعد ما يكونوا عن الجنون، فراشيل كوري (1) تقول في احدا رسائلها لأمها quot;يحب الأطفال أن يجعلوني أمارس لغتي العربية المحدودة بأن يسألوني quot;كيف شارون؟ كيف بوشquot; فأضخك وأنا أقول شارون مجنون! بوش مجنون!quot; طبعاً هذه ليست قناعتيquot; وليست قناعتنا طبعاً، ولكن كيف يمكن فهم أعمال جنونية عندما تصدر عن قادة العالم والدول ورؤوس الجماعات في المحيط الاقليمي والعالمي والداخلي أيضاً؟!
إن وضع غزة أصبح اليوم من التعقيد بحيث أصبحنا نحن اللذين نقطنه مجرد حبات قمح في رحى كبيرة، فكيف لحبة القمح أن تفهم جنون الرحى؟! ولكن العالم والجيش الاسرائيلي الذي يشكل نصف الرحى العلوي يطلب منا ان نفهم كي نستطيع ان نغير حالنا؛ وهذا بالطبع يبدو كوميديا مفرطة في السوداوية.
إذن عندما تصادمت الرؤوس السياسية في المنطقة، وبفضل عبقريتها المتوحشة ظهر هذا العمل الجنوني موجهاً ضد غزة، وليس ضد المقاومة [فعلياً]، بل ضد المدنيين تحديداً، وهذا بالنتيجة النهائية، وعندما تبدأ الأرقام بالحديث ندرك أن المدنيين الفلسطينيين في غزة هم الذين يدفعون الثمن آجلا أم عاجلاً!
انها نتائج جنونية لعمل عقلي محض! يشترك فيه الجميع، من وراء يد اسرائيل وآلة حربها. في لعبة الكل أصبح يعيها تماماً، ونحن المنكوبين فقط من ليس لديه وقت ليعي مثلما هو متاح للعالم من حولنا. بعد قليل سوف ندرك كفلسطينيين حجم الخسائر الحقيقية، ومعنى الهزيمة والنصر، والشعب والمقاومة!
إن المتأمل لتاريخ اسرائيل في حروبها يدرك طبيعة هذا العدو، فما يقوم به الاسرائيليون هو امتداد طبيعي للجنون الصهيوني في المنطقة منذ عام 1948م والذي لم يجد مقاومة حقيقة تمنعه على المستوى السياسي والعسكري والثقافي والميدولوجي حتى. أما ما يحير في لعبة الجنون هذه، فهو الموقف الفلسطيني الهش إلى أبعد صورة متمثلاً في قيادته السياسية والدهمائية.
فحتى الآن لم تستطيع المقاومة في قطاع غزة أن تدرك هول الكارثة؛ فقد أمضت شهور طويلة في اعداد الملاجئ والأنفاق، في محاول للاستفادة من تجربة حزب الله العسكرية في حرب تموز، معتبرة أنها تجربة ناجحة بكل المقاييس، وعندما جاءت لحظة الصفر؛ انجلت الكارثة بأبشع صورها، فقد نجحنا في حماية المقاومة وفشلنا في حماية الشعب!
أما العدو كانت له معادلته الطبيعية فالملاجئ للشعب والعسكريين إلى ساحة المعركة. هكذا وفي ضوء هاتين المعادلتين يمكننا النظر إلى ما يحدث في غزة وقياسه على المدى القريب والبعيد، ومعرفة إذا ما كنا في طريقنا إلى النصر أم إلى الهزيمة.
لقد عادت الظاهرة الصوتية العربية بعد هذا العدوان إلى الاعلام العربي متمثلة في شكلين: الأول هو تحرك الشارع العربي كدهماء لا يعرفون إلى ماذا سوف يصلون من وراء هبتهم هذه في أنظمة شمولية وأخرى مائعة وهشة. أما الشكل الثاني فهو قرقعة النصر أو صوت النصر أو رائحة النصر التي أصبحت تدغدغ عواطف المواطن العربي، فتجعله يهتاج وينتفخ، ويشعر بقيمة ما. بعد كل الهزائم التي سبقت، فكل الحروب التي كانت قبل حرب تموز بين العدو والعرب كانت معروفة كهزائم في وعينا العربي وحقيقتها، ولكن منذ حرب تموز حتى الان، أصبحنا نعيش الهزيمة نفسها على انها نصر!
لقد أدرك المعنيون في الساحة الاقليمية سيكولوجيا الفرد العربي، وضربوا على الوتر الحساس في أعماقه ألا وهو شيء يسمى الشجاعة، ففي ساحة المعركة عندما تقابل الجندي الاسرائيلي مع المقاوم الفلسطيني أو اللبناني أثناء الهجوم البري برهن المقاوم على قدرته الفائقة في حرب العصابات والتخفي، بحيث استطاع أن يواجه الآلة الاسرائيلية التي تدب فوق اليابسة وحسب!
ولكن هل يكفي هذا لحماية أنفسنا من الجنون؟!
كيف يمكن حسابات الربح والخسارة في الحرب؟!
عندما سؤل أحد الكتاب الروس العظام من الذي سوف يفوز في الحرب الروسية الالمانية قال quot;من يأكل أكثر ومن يقرأ أكثرquot; إذن حسب هذا الرأي فنحن مازلنا مهزومين، وبصورة أخرى يمكننا تفسير الربح والخسارة كما يفكر أي طفل بحجم الخسائر هنا وهناك، وبالمقارنة سوف نجد انه لا مقارنة مطلقاً بين خسائرنا وخسائر اسرائيلي، وإذا كانت حساسية اسرائيل للخسارة عالية فهذا لأن ذلك ما يجب أن يحدث في أي دولة متقدمة لا أن تتفاخر المقاومة بصمودها، وهي تتخذ من مساكن المواطنين وأجسادهم دروعاً لحماية مشروعها الحزبي أو حتى الوطني على حد زعمهم، فوظيفة المقاومة هي الدفاع عن الانسان أولاً لا الأرض، فالأرض لا معنى لها بدون الشعب، والمقاومة نفسها لا شيء بدون الشعب. كان أولى بالفصائل الفلسطينية أن ترتب للمعركة بعيدا عن شوارع وبيوت المواطنين الفلسطينين، على الاقل إن لم يكن دورها أكبر من ذلك بكثير.
لكن حركة حماس التي تقود المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة هي التي تتحكم في الاعلام المحلي الان، وتحاول أن تصور ما يحدث للشعب الفلسطيني على أنه نصر، وأنها لن تتنازل وكأن الضغط على الحركة أو قادتها السياسيين في سوريا وغزة، حتى قادة حماس في غزة هم أبعد ما يكونوا عن معاناة الناس لأنهم الآن يسكنون في الأنفاق المجهزة بكافة متطلباتهم، ويتركون الناس ليتلقوا جام غضب الدولة الفاشستية، وكلما ارتفع عداد الضحايا في غزة كلما زاد رصيد حماس في الشارع العربي الذي يرى الاعلام الحمسوايراني وهو يبث سمومه، فمواطنو قطاع غزة يتلقون الان مكالمات تلفونية متنوعة بعضها من جيش الدفاع الاسرائيلي للتهديد وأخرى من العرب الذين يطمئنون على المقاومة دوماً، وكأن المشكلة هي مشكلة من يسمون بالمقاومة.
لقد جاءت حماس إلى السلطة بانقلابها في شهر تموز 2006 على أجهزة السلطة الفلسطينية، وبناءً عليه تم تضييق الخناق على الشعب الفلسطيني في القطاع من اسرائيل ومصر وحكومة حماس وحكومة عباس أيضاً في تفاصيل يعرفها الجميع، عن مصر واسرائيل أما حكومة حماس وحكومة رام الله فتكمن ضغوطاتهم في التفاصيل، ونتيجة للصراع القائم بينهما الذي دفع المواطن والمؤسسات الفلسطينية ثمناً باهضاً له على المستوى النفسي والاجتماعي والاقتصادي لا يتسع المجال لذكره الان.
والآن بعد سنتين جرتنا حكومة حماس إلى حرب تجهزت لها بحيث تحمي رؤوسها، وتقتل الشعب كي تجني هي بعد ذلك الأرباح، متمثلة في التأييد العربي [الشارع العربي] والترويج إلى صيت مثل الذي حدث لحزب الله كي يرفع كل هذا نهاية من اسهم ايران في المنطقة. أما بالنسبة لاسرائيل فهي خطوة جيدة من أجل الانتخابات، ومحاولة للامساك بزمام الامور في غزة وتحقيق أهداف سياسية، أما حكومة رام الله فهي تمتلك الفرصة الآن للعودة إلى غزة واسترداد سيطرتها هناك، ووحده الشعب الفلسطيني هو الذي يخسر الآن وبعد سنوات أيضاً، حيث سوف تتكشف الآثار السلبية على المجتمع، فقد أثبتت الانتفاضة الأولى وما قبلها من سنوات التشرد حجم الخراب التي تتركها لدى الأطفال والناس نفسياً واجتماعياً. غانيك عن آثار الاسلحة المحرمة دوليلاً والتي من الممكن أن تكون احتوت على عنصر اليورانيوم المشع، وما سوف ينجم بعد ذلك من أمراض، والمخاسر الاقتصادية المهولة بالنسبة لشعب فقير مثل الشعب الفلسطيني، وها هي حماس ترفض أن تعترف بما جنته على شعبها، ولو بكلمة فهاهم عناصرها الميدانيون يتخذون من البيوت ودور العبادة ملاجئ ومكامن وساحات حرب كي يحتمو بشعبهم الذي منحهم ثقته وكم ندم على ذلك!
عبدالفتاح شحادة كاتب مقيم في غزة
[email protected]
التعليقات