إذاً قرّر آرييل شارون قطع تذكرة ذهاب بلا إياب للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات...
قررت مؤسسة السلطة في إسرائيل سحب البساط من تحت اللاعب المعتدل الوحيد الذي ما زال يحظى بمصداقية في الشارع السياسي الفلسطيني، ومعه سحبت الاعتراف بـ"شرعية" سلطته...
انه "سيناريو" جهنمي مأساوي، ليس لأن ياسر عرفات شخصية استثنائية يستحيل الاستغناء عنها.
ابداً.. فعرفات مثله مثل اي زعيم يمكن ان يخرج من الساحة لألف سبب وسبب.
انه سيناريو جهنمي مأساوي لأن رهان اليمين الاسرائيلي المتطرف، الذي قام منذ البداية على "إلغاء" الهوية الفلسطينية، وكل ما يمكن ان تجرّه من نتائج وعواقب ومؤسسات، دخل مرحلة خطيرة جداً يحظى فيها بمباركة مخيفة من الولايات المتحدة.
ولإكمال الصورة القاتمة للوضع، تبدو القيادة الاميركية في هذه الايام العصيبة بالذات أسداً جريحاً يتحرق لتصفية حساباته القديمة من دون ان يسأل عما يمكن ان يترتب على نهج من هذا النوع، وطبعاً من دون ان يكترث بأي نصح من اي صديق او رفيق طريق.
واشنطن، الغارقة حتى أذنيها في الحرب التي "ألّفتها" ولحنتها وقسّمتها ضد "الإرهاب"، كانت تدّعي انها راعي سلام في الشرق الاوسط. على الأقل هذا ما كان يقوله الرئيس السابق بيل كلينتون.
اما اليوم ورغم الكلمة التي القاها وزير الخارجية الجنرال كولن باول خلال الشهر الماضي في لويفيل، فإن الانطباع العام عن الموقف الاميركي إزاء الشرق الاوسط ـ حتى في اوروبا الغربية ـ تسوده الشكوك والتحفظات الجبانة العاجزة عن المساءلة والمصارحة.
فواشنطن، كما بات واضحاً وضوح الشمس، عاقدة العزم بعدما انتهت من إطاحة طالبان، على استهداف كل من عنّ له في يوم من ايام سعده تحدي اي رمز من رموز السطوة الاميركية، وسيأتي هذا الاستهداف.. تأديباً او ترويعاً، او ربما على الطريقة الطالبانية، تغييراً جذرياً للنظام.
المؤشرات الكثيرة التي باتت تشعر بها دول عدة تخشى ان تكون على قائمة تصفية الحسابات، اخذت تمس آلية الحكم واستقلالية القضاء ومناخ السلام الاهلي ـ او الوفاق الاجتماعي ـ بين مختلف الطوائف والأعراق. ولئن كانت الشرارات الأولى لما حدث يوم 11 سبتمبر (ايلول) قد مسّت بعنف ومرارة الاقليات المسلمة والعربية والآسيوية الافريقية داخل اميركا، فإن مزيداً من التضييق ـ الرسمي هذه المرة ـ على الطريق، ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل في كل الدول الحليفة، ومن ثم في الدول الخائفة المرعوبة من تداعيات حرب تأديب ـ او استئصال ـ الإرهاب والإرهابيين، والعياذ بالله!
فوزير العدل الاميركي جون آشكروفت، الذي نزع ابناء ولايته ثقتهم منه في انتخابات مجلس الشيوخ الاخيرة مفضلين عليه منافسا متوفى... نعم متوفى... اسمه ميل كارناهان، والذي يمقته كل معتدلي اميركا وليبرالييها بسبب سياساته الاجتماعية الموغلة في محافظتها ويمينيتها، يريد الآن ان يعمم مفاهيمه إزاء الحريات العامة في العالم الرحب خارج الولايات المتحدة.
وفي سياق حملة تشديد الضوابط القانونية واستخدامها سلاحاً إضافياً ضد الإرهاب والإرهابيين، زار آشكروفت بريطانيا اخيراً للتنسيق مع "ثاني" افضل حليف لواشنطن، وتعزيز التفاهم على تدابير الضبط والربط والرقابة والمعاقبة... إلخ.
في الماضي كان يقال ان الحقيقة هي اولى ضحايا الحروب..
ولكن ثمة من يحذّر الآن من ان الحريات العامة واستقلالية القضاء... على وشك اللحاق بالحقيقة.
صحيح الاصوات المحذرة ما زالت خافتة، لكنها موجودة. وسيكون هناك سباق محموم مع الزمن بين مستغلي مأساة 11 سبتمبر وما تلاها، والقوى الواعية والعاقلة والمنزهة عن الغرض في الدول ذات التجارب الديمقراطية الناضجة.
لذا أقول انه مهما فعل وزير الداخلية البريطاني ديفيد بلنكيت ـ مثلاً ـ على صعيد التضييق والرقابة والترهيب الهادف الى كبت المعترضين، ومهما حاولت حكومات دول اوروبية عريقة في احترام الحريات الذهاب بعيداً في إرضاء المستر آشكروفت ورفاقه في الادارة الاميركية الحالية، لن يسمح المواطن الواعي والاحزاب الحية بالحلول البوليسية السهلة.
الا ان هذا لن يحصل ـ على الأرجح ـ في دول العالم الثالث، وبينها حتماً دول العالم العربي، خاصة انها متهمة قبل حصول الجرم ومدانة قبل ان يوجه اليها الاتهام.
وهنا نصل الى الوضع الفلسطيني الحرج... وسط العجز العربي التام عن الخروج بأي موقف.
ان الجانب الأكثر إيلاماً على الإطلاق، هو ان اليمين الاسرائيلي المتطرف، بالتواطؤ مع نفر من ادعياء الاعتدال، هو الذي يحدد اليوم جدول الاعمال الاقليمي للشرق الاوسط.
وواشنطن التي كانت حتى الأمس القريب تناشد العرب والاسرائيليين "ضبط النفس" وركوب قطار الحوار والتعايش، والابتعاد عن التطرف، نسيت او تناست أي من الطرفين يقوده "معتدلون" يكادون يفقدون آخر ورقة توت، وأي منهما يقوده "متطرفون".
نسيت او تناست ـ ولو تذكرت قبل صياح الديك انها "مع قيام الدولة الفلسطينية" ـ ان ياسر عرفات هو الذي راهن على السلام وربما افرط في رهانه لدرجة قللت قدرته على احتواء شارعه، بينما آرييل شارون هو الذي جاء الى سدة الحكم في إسرائيل بهدف معلن هو نسف الاتفاقات المعقودة لتحقيق السلام.
ان التطرف الفلسطيني معارض... بينما التطرف الإسرائيلي حاكم.. فاغتيال المدنيين الفلسطينيين ترتكبه "الدولة" الاسرائيلية بقرارات من "حكومتها الامنية" المصغّرة، وبصواريخ طائرات الاباتشي التابعة للقوات المسلحة الاسرائيلية، وبتنسيق كامل شامل مع أجهزة الاستخبارات والأمن... في حين ان قتل المدنيين الاسرائيليين يرتكبه فلسطينيون "أفراد" يئنون من مرارة الاحتلال والقهر وجرف البيوت ومصادرة الاملاك، وهم يتمنطقون بالمتفجرات ويشنون عملياتهم الفدائية خفية عن السلطة الفلسطينية، واحياناً عن بعض قادة تنظيماتهم، ويكونون اول قتلاها.
العنف الفلسطيني ـ المتهم بـ"الإرهاب" ـ عنف رد فعل يائس مكبوت وضعيف التنسيق، بينما القتل الاسرائيلي "سياسة حكومية" معلنة.. كانت تحظى بقبول ضمني من اعلى مرجعيات الدنيا، وهي منذ 11 سبتمبر تتمتع بالمباركة العلنية من هذه المرجعيات.
كحال التضييق على الحريات وإضعاف استقلالية القضاء في اوروبا وبقية دول العالم، دخلت الاجواء العامة المحيطة بالصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، ومن ورائه الصراع العربي ـ الاسرائيلي ايضاً، سباقاً مع الزمن. وهذه حقيقة تدركها واشنطن مع انها تتصرف وكأنها آخر من يعلم..
وهذا السباق مع الزمن مضمونه استمرار الهروب الاسرائيلي الى الامام، وكفاح الفلسطينيين لدرء مخاطر الحرب الاهلية التي تسعى تل ابيب وواشنطن الى سوقهم اليها بالقوة.
فشارون وحلفاؤه من معسكر اليمين الاسرائيلي مستفيدون جداً من مواصلة رفعهم حرارة قمع الفلسطينيين وضربهم، لأن شارون وحلفاءه، عبر "مسلل الفعل ورد الفعل المضاد"، سيجبرون حزب العمل على البقاء في الحكومة الحالية شاهداً اخرس، ويجبرون التيار المعتدل في الشارع الاسرائيلي على التزام الصمت تحت طائلة الاتهام بالخيانة.
وفي المقابل، سيضع اشتداد الضغط الاميركي ـ الاسرائيلي على السلطة الفلسطينية، وسط عجز عربي كامل، هذه السلطة في وضع مستحيل NO WIN SITUATION. فكلما استجابت السلطة للضغط فقدت مزيداً من مصداقيتها في شارع غاضب حانق، وإذا حاولت استعادة رضى الشارع عنها عبر تذكير المجتمع الدولي بمطالبها السياسية... تتحرك ماكينة الاغتيالات الرسمية الاسرائيلية مستفزة الفلسطينيين ومذكّرة اياهم .. بأن العمليات الفدائية هي اللغة الوحيدة التي تتفاعل معها حكومة "الوفاق الوطني" الإسرائيلية.(الشرق الأوسط اللندنية)