ادريس الخوري
بما أنه لم يكن يملك من المال ولا من المدخرات ما كان يسمح له بكراء شقة أو غرفة حتى، من أجل الاستقرار النهائي في مدينة الرباط، وجد ادريس الخوري نفسه مشتتا مرة أخرى، حيث اتخذ من مقهى " Jour et Nuit "، القريبة من نزهة حسان، مكانا للإقامة المؤقتة. وكما يدل على ذلك اسم المقهى الذي&كان لا يغلق أبوابه ليل نهار. ومن حين لآخر، كان الأستاذ سعد العلمي، البرلماني وعضو اللجنة التنفيذية بحزب الاستقلال حاليا، يقوم، بناء على توصية السحيمي، باستضافته ببيته. وذلم ما يتذكره الخوري بقوله: " كان السي سعد العلمي وشقيقه عبد القادر طالبين ساعتها بالجامعة، وكانا يقطنان بشقة اكتراها لهما والدهما المرحوم السي العياشي، وكان بالمناسبة رجلا شفشاونيا ( نسبة إلى مدينة شفشاون ) كريما. قلت، كانت تلك الشقة قريبة من مقهى العصافير ومكتب صغير للبريد قبالة محطة سيارات الأجرة الكبيرة، الرابطة بين مدينة الرباط وسلا. لقد كان سعد العلمي كان صديقا حميما للمرحوم زفزاف. وما بين مقهى Jour et Nuit " وبيت الأخوين العلمي، كنت أنزل ضيفا، من حين لآخر، عند الأخ عبد الجبار السحيمي، الذي كان يقطن وقتها قرب مقر شركة ( REDAL ) لتوزيع الماء والكهرباء، غير البعيدة عن مقهى " جور إيه نوي ".
وإلى جانب عمله الرسمي مصححا بجريدة العلم، كان يقوم، من حين لآخر، بتحرير مقالات وتغطيات صحفية في مجالات الثقافة والفن والإبداع، حيث كان يتقاضى أجرة شهرية، مقابل عمله مصححا، تقدر بـ: سبعمائة درهم، هذا دون احتساب التعويضات التي كان يتلقاها عن مساهماته كمحرر بالقطعة، بمعنى أن كل ما كان يكتبه، على غرار المتعاونين الآخرين من خارج هيأة تحرير الجريدة الرسمية، كان يقاس بالمتر، أي انطلاقا من حجمه لا أهميته!
&وعن ذكرياته عن هذه المرحلة يحكي إدريس: " وأتذكر، بالمناسبة، أنني حين قدمت إلى الرباط، استقدمت معي دراجة هوائية، وكانت من النوع الفرنسي الجامِّيل ودْيَالْ النَّفْسْ، وهي الوسيلة التي كنت أفضلها في تنقلاتي اليومية داخل العاصمة. لكن، حدث مرة أن تركتها مركونة قبالة إحدى المقاهي الرباطية التي كنت أرتادها باستمرار رفقة العديد من الأصدقاء. وعند انتقالي من ذلك المقهى إلى آخر غير بعيد، نسيت الدراجة مركونة في مكانها. وفي صباح اليوم الموالي، عدت إلى نفس المحل، فلم أعثر لها على أثر، لأسأل الحارس الوجود بعين المكان عن أمر الدراجة التي كانت، لكنه أكد لي أنه لم يسبق له أن رآها من قبل! بعد ضياع تلك الدراجة، اشتريت دراجة ثانية، و هذه المرة كانت دراجة نارية، ومن نوع خاص ومتداول بشكل كبير،& وأقصد بذلك " السوليكس "، وكان ثمنه آنذاك يساوي ستمائة درهم. لكن " السوليكس " هذا كان مصيره مثل مصير الدراجة الهوائية الفرنسية التي سبقته، حيث سرق هو الآخر في ظروف غامضة ! ".
ومراعاة لحالة إدريس النفسية، قام عبد الجبار، دائما، بالتوسط له عند أحد العاملين بجريدة " لوبينيون " بقسم التصحيح، و قد كان شابا من أصول ناظورية، فقد استضافه لمدة ببيته الكائن بزنقة " نابولي " بحي المحيط، لكن، سرعان ما تم استدعاء ذلك الشاب لأداء واجب الخدمة العسكرية، الأمر الذي جعله يتنازل لإدريس عن الشقة مقابل تأدية مبلغ& ثمانين درهما كسومة للكراء، بعدما كان ثمنها، قبل أن تتحول في إسمه، هو ستون درهما.
بقي الأمر على هذا النحو حتى سنة 1976، وبالضبط، إلى حدود انعقاد المؤتمر الخامس لاتحاد كتاب المغرب، وكان ساعتها الروائي عبد الكريم غلاب رئيسا للاتحاد، حيث قام إدريس، انطلاقا من قناعاته المبدئية، و باعتباره مثقفا منتميا إلى صفوف هذه المؤسسة الثقافية، بالتصويت لفائدة الروائي محمد برادة، وضدا على رغبة مديره في جريدة العلم، آنذاك، الأستاذ غلاب. الأمر الذي لم يتم قبوله من طرف العديد من مثقفي حزب الاستقلال، وبالتالي، تم وضع إسم الخوري ضمن قائمة المنشقين أو الخارجين عن منطق الولاء لأولي الأمر والخبز.
وقد كان على رأس هؤلاء الغاضبين عن إدريس، كما يتذكر ذلك جيدا، " العربي المساري، الذي لعب دورا سريا في الدفع بي إلى تقديم استقالتي، وهو ما تم قبوله بسرعة. فقد كان السيناريو مخدوما بعد يوم الأحد الذي انتهى فيه المؤتمر " .
وعن هذا الأمر يقول الخوري: " ، بعدما قمت بالتصويت عن سي محمد برادة، تآمر علي العربي المساري، ودفعني بخلفية انتقامية لأن أقدم استقالتي من جريدة العلم.
ورغم أنني أمضيت أزيد من ثماني سنوات في بيت جريدة العلم، إلا أنني غادرتها بدون تعويض عن الخدمات السابقة أو ما شابه. ذلك أن ما تسلمته من إدارة الجريدة، لدى مغادرتي لمقرها، كان عبارة عن أجرتي الشهرية فقط كمصحح إضافة إلى مبلغ يقابل المواد التي نشرتها خلال ذلك الشهر، وهو ما كان مجموعه ألف وثلاثمائة درهم ليس إلا! ".
بعد هذه التجربة مع جريدة العلم، التي استغرقت ثماني سنوات من عمر الرجل، منقسمة ما بين اشتغاله مراسلا للجريدة من مدينة الدار البيضاء، ثم التحاقه للعمل بالمقر المركزي بالرباط، سيجد إدريس نفسه عاطلا عن العمل مرة أخرى. هذا الوضع الذي كان يعني، بالنسبة لشخص كاتب مثل الخوري، لا يحسن سوى استعمال قلمه وأفكاره، مزيدا من التشتت والانكسار واللاطمأنينة. لذلك، فقد هذا استمر " الفراغ " ما يقارب ثلاثة أشهر كاملة، والذي سرعان ما سيأخذ انعطافة جديدة، وذلك حينما قام صحافيان إثنان من أسرة هيأة تحرير جريدة " المحرر "، التي كانت قد حلت محل جريدة " التحرير " الممنوعة، ويتعلق الأمر، حسب الخوري، بكل من عبد الله بوهلال ومصطفى القرشاوي، هذا الأخير الذي حضر أطوار مؤتمر اتحاد الكتاب، وكان على علم تام بكل ما جرى لصاحبنا، حين قاما باقتراح إسمه من أجل أن ينضم إلى طاقم تحرير الجريدة، هذا الأمر الذي قام بتزكيته الأستاذ محمد عابد الجابري، ليلتحق إدريس، محررا بالقسم الثقافي للمحرر.
استمر الوضع على هذا الحال حتى حدود شهر&حزيران (يونيو)&من سنة 1981 ، كما هو معروف في إحدى الأغاني الرثائية الشعبية الشهيرة. هذا التاريخ الذي يكاد يكون علامة فارقة وموشومة في تاريخ المغرب المعاصر، وذلك بالنظر إلى ما يختزله من أحداث ودلالات وصور قاسية ومؤلمة في جسد الشعب المغربي قاطبة، إلا من كانت نفسه غاصة ومكتظة بشتى أنواع " المَخْزَنة " والكذب والافتراء على أعطاب الواقع الثمانيني من القرن الماضي الكبرى.
هكذا، إذن، فقد كان من تبعات أحداث 1981 الشهيرة، أن أحالت طاقم تحرير جريدة المحرر إلى عطالة إجبارية، وذلك حينما قررت وزارة الداخلية، وعلى رأسها إدريس البصري، آنذاك، وهو في عز بطشه وجبروته، استصدار أمر بمنع صدور "المحرر" إلى اليوم.
وعلى الرغم من أن هذا الوضع الشاذ استمر على امتداد السنتين المواليتين لهذا التاريخ، إلا أن إدارة الجريدة قررت، مع ذلك، الإبقاء على جزء من رواتب صحافييها وكافة العاملين بها. وعن هذا الوضع الجديد يقول الخوري: "رغم توقف الجريدة، إلا أن إدارتها كانت تمنحنا، في البداية، " راتبا " شهريا قدره سبع مائة درهم، هذا المبلغ الداعم سرعان ما توقف بدوره عن البعض، للأسف، دون البعض الآخر، ممن لا أريد تسميتهم.
في هذه الفترة، أصدر الأخ سي محمد بنيحيى، المستشار حاليا بديوان الوزير الأول المغربي، جريدة البلاغ، فطلب مني الأخ الأشعري الالتحاق بهيأة تحريرها. وبما أن الوضع المادي للبلاغ كان هزيلا، فقد خصني الأخ بنيحيى براتب شهري يقدر ب سبع مائة درهم، كانت لا تكفي لسد حاجياتي اليومية الضرورية والملحة ".
وداخل جريدة " البلاغ "، اشتغل إدريس الخوري إلى جانب محمد الأشعري، وزير الثقافة والاتصال بحكومة عبد الرحمان اليوسفي الحالية، كعنصرين أساسيين داخل هيأة التحرير، إلى جانب متعاونين آخرين كالأستاذ محمد بوخزار ومحمد برادة على الخصوص. وقد كانت جريدة " البلاغ "، كما يتذكر ذلك صاحبنا، " تجربة إعلامية رائدة، سواء في المجال الثقافي أو السياسي، حيث تركت بصمات قوية في المجال الصحافي المغربي، هذا على الرغم من الإمكانيات المحدودة التي كان يوفرها لها الأخ محمد بنيحيى " .
بقي إدريس، إذن، يشتغل بالبلاغ، إلى حدود سنة 1983، وهي السنة التي عرفت تأسيس منبر إعلامي جديد من قبل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهو المنبر الذي حمل، وإلى اليوم إسم " الاتحاد الاشتراكي "، التي التحق بها الخوري إلى أن تمت إحالته عن&& التقاعد.
لقد حاول صاحبنا، طوال هذه المسيرة الطويلة الحافلة بالعطاءات، أن يرسم لنفسه مسارا خاصا به، سواء تعلق الأمر بالكتابة الإبداعية و الصحافية أو بالحياة، وذلك ضدا عن كل تلك الإخفاقات والهزات التي كانت تتعقبه، كلما استنشق بعض الاستقرار والطمأنينة وراحة البال. حيث أنتج نصوصا، تعتبر، بشهادة مهندسي النقد السردي الحديث بالمغرب وبعض النقاد والمبدعين العرب، لبنة وجذرا أساسيين في قراءة المتن الإبداعي القصصي بالمغرب. وليس غريبا أن نجده، وهو يفصّل في أسباب ذلك قائلا: " أعتقد أن الكتابة إذا لم تكن ممزوجة بالحياة، لا يمكنها أن تتطور أو تعطي ما هو مطلوب منها. فبالنسبة لي، أحاول أن أمزج ما بين الكتابة وما بين الحياة. ذلك أنه حينما تنتهي الكتابة تبدأ الحياة، وحينما تبدأ الحياة تبدأ الكتابة. هذه، إذن، هي المعادلة التي أومن بها.
وأعتقد أن على الكاتب، الذي له قناعة بكونه لطيفا ومؤدبا و " ظْرَيّفْ "... والناس تقول عنه إنه كذلك... فهذا معطى أخلاقي. لكن، مع الأسف، فإن مجتمعنا ينظر إلى المتعة نظرة قدحية. فالكتاب في العالم، في أمريكا وفي فرنسا على الخصوص، هم أناس عاديون في النهاية، أما عندنا نحن، فنعطيهم صفات الألوهية. لذلك، أعتقد أن الحكم على الكاتب ينبغي أن بنصب على ما ينتجه من خلال حياته " .
وبالموازاة مع ذلك، وانسجاما مع طبيعته غير المحابية، التي طالما جرت عليه عداءات مجانية و حروب صغيرة، فإن صاحبنا لا يتردد، كلما دعته الضرورة إلى ذلك، في الحديث عما آل إليه الوضع الثقافي والإبداعي والفني في المغرب، في غياب ذلك النوع من " الجدل الفكري والثقافي الصاخبين والمؤسسين الذي كان سائدا في فترة السبعينات"، حيث يقول: " لقد كانت فترة السبعينات فترة غنية جدا بالنقاش. أما الآن، فالثقافة المغربية تسير في اتجاه نوع من التصالح. بمعنى أن كل مجموعة تسير متصالحة مع مجموعة أخرى. فلم يعد هناك مجال فكري كما كان من قبل أيام جريدة " المحرر ". وأذكر مثلا، في هذا السياق، النقاش الذي كان دائرا بين المرحوم أحمد المجاطي وحسن الطريبق، كما أذكر كذلك كتابات الأستاذ محمد برادة في مجلة " دعوة الحق " وحتى في جرائد " التحرير " و " المحرر " وفي " البلاغ " أيضا.
لقد كانت، بالفعل، فترة غنية جدا بالنقاش. أما الآن، فقد أصبح للمثقفين المغاربة " حساسيات "، يعني أن " تكتب " على فلان يقاطعك نهائيا! بمعنى، لم يعد هناك ذلك التقبل للسجال الثقافي الذي كان سائدا خلال حقبة السبعينات. وهذا الأمر، كما أعتقد، يدخل في إطار ما قد أسميه بـ " أخلاقيات الكلية أو الجامعة ". حتى في النقاشات الثقافية، التي تدور داخل الكليات أو خارجها، ثمة هناك نوع من المداهنة والرفاقية والمراهنة على أن يحافظ كل واحد على علاقته الطيبة والمتصالحة مع الآخر. فهذه، للأسف الشديد، هي الملامح التي كانت سائدة خلال فترة الثمانينات والتسعينات، مع بعض الاستثناءات، التي تبقي قليلة، والتي تحاول إثارة بعض الأسئلة والقضايا، انطلاقا من& القراءة والمشاهدة. وهذا يؤدي بنا إلى رسم صورة أخرى للمثقف الحديث في المغرب.
فالمثقف، اليوم، أصبح مركنتينيا. وتحسنت وضعيته الاجتماعية، وهنا أتحدث عن المثقف المؤسساتي، وليس المثقف الموجود خارج المؤسسة، إذ أصبح المثقف المؤسساتي يبحث عن توفير سكن في حي " الرياض " (أحد أرقى أحياء العاصمة)، ويكون له حساب بنكي، ويكتب بالمقابل هنا وهناك... ومن ثم، لم يعد في ذهنه أي صداع، أو أسئلة أو قلق!، فمسألة " تغيير المثقف " هي مسألة نسبية، بالنظر إلى نسبة الأمية من جهة، ثم خطاب المثقف والكاتب نفسه من جهة أخرى.
أما بعد، ونحن نأتي على إنهاء هذا " السفر " الاستعادي، في بعض مسار حياة وتجربة الكاتب& المغربي الكبير الأستاذ إدريس الخوري، نتمنى أن نكون قد أجبنا على بعض نواحي ذلك السؤال المباشرة، الذي طرحناه ضمن تقديم هذه المادة، والذي جاء على صيغة: " ما الذي يمكن أن نعرفه عن الكاتب المغربي الكبير إدريس الخوري؟ "، ذلك أن الكتابة عن مبدع متعدد الاهتمامات والمشاغل، يملك سيرة حياتية " انقلابية " كالتي جربها " بّا إدريس " جعلنا نكتشف، رغم معايشتنا اليومية للكاتب على مدار أزيد من ست سنوات من الإنصات والتعقب وتدوين كل ما كانت تجود به تذكراته الخصبة، أن مثل هذا الاقتراب أمر يكاد لا يخلو من مصاعب، كما أنه لم يخل من حرص شديد، من طرفنا، على تمثل شتى أنواع التدقيق في المعلومات التي جمعناها عن الرجل، وذلك حتى لا تفهم معطياتنا ، من طرف البعض، على أنها ضرب من التضخيم والغلو والإثارة المجانية. (انتهت)
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&حلقات يكتبها الشاعر المغربي عزيز أزغاي