&
ادريس الخوري
الهجرة الى الجزائر بمائة درهم
في سنة 1965 قرر&الكاتب ادريس الخوري الهجرة إلى الجزائر، الخارجة حديثا آنذاك من سترة الاستعمار الفرنسي، للاشتغال بإحدى صحفها، بعدما كان قد راكم بعض الكتابات المتنوعة بالمغرب. وقبل التوجه إلى وجدة ومنها إلى الجزائر العاصمة، وكان ثمن التذكرة من الدار البيضاء إلى وجدة يساوي ثلاثين درهما، قصد مكتب عبد الجبار السحيمي بجريدة "العلم"، والواقع بشارع علال بنعبد الله بالرباط، الذي سلمه رسالة توصية لأحد معارفه بمدينة وجدة وإسمه محمد العَرَبي، الذي قام باستضافته ببيته لمدة أسبوع لدى وصوله إلى وجدة، كما قام بتعريفه، خلال هذه الفترة القصيرة، على المجتمع الوجدي الثقافي والتعليمي بالأساس، لاسيما في منطقي أحفير والسعيدية الشرقيتين.
وعن هذه الرحلة العجيبة، يحكي إدريس: " اشتريت تذكرة القطار الرابط بين مدينة الدار البيضاء و وجدة، وكانت تساوي ثلاثين درهما آنذاك. وقد حملت معي مبلغ مائة درهم. فقط لا غير! وقد كان هذا كل المبلغ الذي بحوزتي، والذي وضعته جانبا لمقتضيات المصاريف اليومية وتفاديا كذلك لأي طارئ!، هذا المبلغ الذي كان قد أعطاني إياه أخي& المرحوم سي محمد.

وصول الماريشال تيتو والنوم في حمامات الجزائر
المهم، بعد الأسبوع الذي قضيته بوجدة، قام السي محمد العرَبي، بعدما زودني ببعض المال، بإيصالي إلى النقطة الحدودية " زوج بغال "، التي تفصل بين المغرب والجزائر. وعند دخولي إلى التراب الجزائري، انتقلت مباشرة إلى مدينة " مغنية "، حيث دعاني أحد معارفي من الجزائريين وإسمه " الزبير " إلى العشاء ببيته، ذلك أن هذا المواطن سبق لي أن تعرفت عليه حين كان مقيما بالمغرب، وبالضبط بحي درب غلف. بعد وجبة العشاء، ذهبت للمبيت بأحد الحمامات الشعبية. ذلك أن الجزائر في هذا التاريخ كانت تنتشر بها ظاهر المبيت في الحمامات، هل تعلم ذلك؟! ( قهقهات )، حيث إنك كنت تؤدي ما قدره درهمان للاستحمام ثم زائد المبيت. وفي الصباح تغادر وأنت ( بخير وعلى خير ) ".
ومن مغنية سينتقل صاحبنا صباح اليوم الموالي إلى وهران، وكان ذلك أيام الرئيس أحمد بنبلة. حيث صادف وصوله إلى وهران زيارة الماريشال " تيتو " إلى الجزائر، و كانت الجزائر مازالت تحتفل بحرارة استقلالها الطري. وفي مدينة وهران، سيستقر إدريس، " بشكل سري " هذه المرة، أو مثل أي (حرّاك )، ( كما يعبر عن ذلك ساخرا ) عند أحد المغاربة من أبناء درب غلف، وهو من أصول جديدية ( من مدينة الجديدة )، كان يمتهن الحلاقة بالجزائر.
&ذلك أن المقصود ب" الإقامة السرية " في هذا السياق، هو أن السيدة الجزائرية العجوز، صاحبة البيت الذي كان يقطن به الشاب الجديدي الذي استضاف الكاتب لمدة يومين، كانت تمنع عليه منعا كليا استضافة أي كان من أصدقائه أو معارفه. لذلك، كان إدريس ينتظر نزول الظلام، ليفتح الباب ويخلع حذاءه، ثم يصعد بعدها الدرج على أطراف أصابعه، وذلك حتى لا يُكشف أمره وأمره مستضيفه، و تضطره صاحبة البيت لمضاعفة سومة الكرام. بعد اليومين اللذين قضاهما في تلك " الإقامة السرية "، انتقل عبر القطار، إلى الجزائر العاصمة. وفي العاصمة، توجه إلى جريدة " الشعب " الجزائرية، حيث كان يشتغل الصحافي المغربي المرموق الراحل محمد باهي، وبعدما علم برغبته في الاشتغال بإحدى الصحف المحلية، أخبره بأن الأمر ليس بالسهولة التي قد يتصورها، على الأقل في ذلك الظرف التاريخي الدقيق من تاريخ الجزائر ( أي في سنة 1965 ). ليقوم بدعوته، بعد هذا اللقاء " السريع "، لتناول وجبة غذاء بإحدى المطاعم بقلب العاصمة، ثم قام بتوديعه عائدا إلى مقر الجريدة، حيث لم يجد صاحبنا من أمر يفعله، بعد خيبة الأمل غير المرتقبة تلك، سوى الذهاب إلى إحدى الحمامات الشعبية القريبة قصد الاستحمام ثم للمبيت ( طبعا ) تلك الليلة .
وعن طبيعة هاته الحمامات، يتذكر الخوري أنها: " كانت عبارة عن " بورديل - مبغى "، ذلك أن الجزائر، في تلك الفترة، كانت ما تزال تجر خلفها ذيول ومخلفات الاستعمار الفرنسي ".
وفي صبيحة اليوم الموالي، سيعود صاحبنا، عبر القطار مرة أخرى، إلى مدينة وجدة قاصدا السي محمد العَربي، الذي زوده، مرة ثانية ببعض النقود، ومنها سيقصد مدينة الدار البيضاء. لقد كانت المدة التي قضاها إدريس بالجزائر، والتي لم تتجاوز أسبوعا واحدا، بمثابة تجربة حقيقية، بالرغم من قصرها، ودرسا ما يزال يتذكر كثيرا من تفاصيله اليومية الدقيقة، وليس ذلك بغريب على كاتب مهووس بأدق التفاصيل اليومية، وأبعاد الأحداث الصغيرة والعابرة.

العودة الى البلد بلا حرفة سوى القلم
وبرجوعه إلى مدينة الدار البيضاء، بقي كاتبنا عاطلا عن العمل. فباستثناء دربته وتمكنه من التحرير الصحفي ومعرفته غير الهينة بمثبطات اللغة العربية، لم يكن يتقن أي عمل آخر أو أي حرفة، يستطيع بواسطتها تلبية بعض حاجياته الملحة. وعن هذا الأمر يقول: " لم يسبق لي أن مارست أي مهنة. فقط، أتذكر أنني لما كنت تلميذا ب " الجامع "، أي قبل التحاقي بمدرسة " الرشاد " الخاصة، كنت أقصد سوق الخضر المتواجد بالمعاريف، لأساعد الأوربيين على نقل مشترياتهم إلى سياراتهم أو إلى بيوتهم. وكنت أقوم بهذا العمل من أجل الحصول على بعض النقود، التي كنت أستعين بها على اقتناء الدفاتر والكتب والمعدات المدرسية، وما عدا ذلك، لم يسبق لي أن مارست أي حرفة من قبل ".
وحصل أن علم الأستاذ محمد برادة& بأن إدريس أصبح يعاني من تبعات كونه مازال عاطلا عن العمل، ولديه حاجيات معيشية ملحة، الأمر الذي دفعه إلى التوسط له لدى إدارة جريدة " التحرير "، التي تم قبوله بها بصفته مصححا مقابل أجرة شهرية تقدر ب: ثلاثمائة وخمسون درهما.
وعن هذا " التوظيف " بجريدة " التحرير " يقول الخوري:" ولعلمك، فإنني كنت، إلى جانب عملي كمصحح، أعمل محررا صحافيا في نفس الوقت، حيث لم يكن هناك، داخل هيأة التحرير، أي تصنيف أو تمييز صارم بين من كان يشتغل صحافيا وبين من كان مصححا ".
وقد كانت هيأة تحرير جريدة " التحرير " مؤلفة من طاقم صحافي يتكون من الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، الوزير الأول المغربي الحالي، الذي كان يشغل منصب رئيس التحرير، إضافة إلى مداومته، في تلك الفترة، على كتابة عمود متميز تحت عنوان: " لا دخان بدون نار "، إلى جانب اليوسفي كان هناك الصحافي حسن العلوي ( الملقب ب: فْرِيمُوس )، والذي يعتبره الخوري من ألمع الصحافيين المغاربة، ومن الأوائل الذين علموه خبايا وأسرار الكتابة الصحفية. كما كانت الهيأة تضم كذلك كلا من مصطفى القرشاوي عبد الله بومهدي والمهدي الورزازي، هذا الأخير الذي كان مسؤولا عن مالية الجريدة... هذا إضافة إلى صحافيين آخرين.
و بالموازاة مع جريدة " التحرير "، عرفت هذه المرحلة كذلك ظهور جريدة " الأهداف "، وهي جريدة أسبوعية سياسية وثقافية، كان يديرها الأستاذ أحمد حميمو إلى جانب محمد عابد الجابري وعبد الوهاب مروان، اللذين كانا من ضمن هيأة تحريرها. وقد كانت " الأهداف "، حسب الخوري، " جريدة مغربية بعثية ".

شبح البطالة ثانية
بعد أقل من سنة فقط، سيجد الخوري نفسه مجددا عرضة لألم البطالة والتسكع ثانية في مقاهي ومنتديات مدينة الدار البيضاء. ذلك أنه خلال نفس السنة، أي 1965، سيتم اغتيال الزعيم المغربي المهدي بنبركة، مما كان يعني مباشرة تعرض كل رفاقه إلى حملة قمع سياسية شرسة، قادتها السلطات المغربية، وتفنن في تطبيق مقتضيات بشاعتها كل من الجنرال أوفقير ومساعده الأول أحمد الدليمي. وقد أسفرت هذه الحملة الضارية، ضد اليسار المغربي آنذاك وضد رجال الحركة الوطنية، ضمن ما أسفرت عنه، عن توقيف، بل وإغلاق جريدة " التحرير " إلى يوم الصحافة هذا.
وبما أن صاحبنا كان قد راكم داخل أسرة تحرير جريدة " التحرير "، خلال تلك السنة، بعضا من الحضور الإعلامي، سواء من خلال كتاباته القصصية أو تغطياته الصحفية الثقافية، وبالنظر كذلك إلى العلاقة الحميمية التي كانت تربطه بالكاتب والصحافي عبد الجبار السحيمي، الذي كان لا يترك الفرص تمر دون أن يقدم له ما يكفي من الدعم والمآزرة، فقد عمل الأستاذ عبد الجبار على إلحاقه مراسلا، وصحافيا متعاونا بمكتب جريدة العلم الكائن بشارع محمد الخامس بمدينة الدار البيضاء.
&وعن هذه التجربة يقول إدريس: " في مكتب جريدة العلم بشارع محمد الخامس، كنت أشتغل إلى جانب شخص يدعى عبد اللطيف بنيس، الذي كان مراسلا لجريدة " L'opinion "، و قد كانت تسمى آنذاك " La nation& Africain& " ، التي كان مديرها هو السيد إدريس الفلاح، الذي صار بعد ذلك عاملا على إقليم طنجة ثم سفيرا بليبيا.
لم أكن أتقاضى أجرة شهرية كأي صحافي قار، بل كنت أشتغل ك " Pigiste& "، أي بالقطعة أو بالعمود، وهو ما كان يعني حسابيا أنني كنت أتقاضى أجرة تتراوح ما بين مائة و مائة وخمسين درهما، في نهاية كل شهر، مقابل ما كنت أكتبه. حيث بقيت على هذا الحال إلى حدود سنة 1968 ".
وللبحث عن مزيد من الاستقلال عن الأسرة والاستقرار النفسي والصفاء الذهني، سيقوم إدريس بكراء غرفة بسطح إحدى العمارات الكائنة بحي المعاريف، وبالضبط بزنقة " فوريز "، هذه العمارة التي كانت في ملك أحد أطباء الأسنان المشهورين بالمعاريف ويسمى الدكتور العلمي. وقد كان ذلك بمجرد التحاقه بمكتب جريدة العلم بالدار البيضاء.

بدايات الاستقرار
وفي نفس السنة، أي 1968 ، سيطلب عبد الجبار السحيمي، مرة أخرى، من إدريس الالتحاق للعمل& بالمقر الرئيسي لجريدة العلم بمدينة الرباط، حيث سيوظف مباشرة بقسم التصحيح. وقبل هذا الالتحاق النهائي بالعاصمة، قام إدريس بتسليم غرفة سطوح زنقة " فوريز " إلى الكاتب الراحل محمد زفزاف، الذي كان حديث العهد بمدينة الدار البيضاء، التي قدم إليها بعدما تم تعيينه بإحدى إعدادياتها بصفته أستاذا للغة العربية.
وعن هذا الأمر يقول الخوري: " لقد كنت السبب في تعيين سي محمد رحمه الله بحي المعاريف. ذلك أنه كان قد عين أول مرة بإحدى المؤسسات التعليمية بمدينة الدار البيضاء، وهو الأمر الذي لم يكن قد راقه كثيرا، مما دفعني، بعدما فاتحني في الأمر، إلى القيام بتدخل لفائدته لدى أحد أصدقائي، الذي كان موظفا بمندوبية التعليم الثانوي، وكانت آنذاك بليسي مولاي عبد الله، قرب حي لارميطاج. وكان هذا الصديق يسمى بوشعيب، و الذي أصبح فيما بعد يعرف بإسم الحاج " نودير "، بعدما صار له شأن بالجامعة الملكية المغربية لألعاب القوى. بعد مفاتحة سي بوشعيب، إلى جانب صديق آخر كذلك، وهو أحد أبناء حي درب درب السلطان، والذي كان يشتغل هو الآخر بنفس المندوبية ويسمى " عدنان "، تم تعيين سي محمد بإحدى الثانويات بحي المعاريف، وأعتقد أنها كانت ثانوية ابن حبوس.
من هنا كان أول استقرار لزفزاف بالمعاريف وبالضبط في الغرفة التي كنت أكتريها بسطح عمارة الدكتور العلمي _ كما أسلفت _ حينما نادى علي عبد الحبار السحيمي للالتحاق بجريدة العلم بالرباط. وقد بقي المرحوم زفزاف بنفس الغرفة دون أن يؤدي اجرة كرائها، إلى أن تم استدعائي مرة من طرف المحكمة بـ " سيتي بْلاطُو "، من أجل الإفراغ، وذلك ما تم بالفعل وبشكل حبي، فيما بعد، حيث بقيت كتبي موزعة، بعد هذا الحادث، بين المرحومين محمد زفزاف والشاعر أحمد الجوماري ". (يتبع)
حلقات يكتبها الشاعر المغربي عزيز ازغاي
&