إيلاف: كانت "إيلاف" قد أشارت في الحلقة الأولى، إلى أن الطريقي غادر البلاد السعودية في فترةٍ مبكرة من حياته إلى مصر، وقضى هناك أفضلَ سني عمره، ودرس فيها المرحلتين الثانوية والجامعية، وقد شكّلت مصرُ أهمية كبرى في حياة الطريقي، فيما بعد، فكانت هي المكان الذي أوى إليهِ في خريف عمره، ليتأمل ويراجع ما قدّمه من أعمال وأفكار، وفيها كان وداعه الأخير!
وفي كتاباته التي خطّها بعد أن تفرغ للكتابة النفطية، وتقويم أوضاع الوطن العربي، في فترة الحرب الباردة، فقد شغلت مصرُ تفكير الطريقي، فكتبَ مطالباً بانتشال وضعها الاقتصادي، وإقامة مارشال عربي فيها، قبل أن تبلعها الشيوعية، أو أن تذعن لشروط أمريكيا وإسرائيل!
يتحدث الطريقي في مجلته "نفط العرب" في عام 1977م عن مصر وأهمية وادي النيل فيها، فيقول: "إن مصرَ هبة النيل حقاً، فهذا النهرُ العظيم اخترق الصحراء من أواسط أفريقيا حتى البحر الأبيض المتوسط، وقضى الملايين من السنين يشق طريقه حاملاً معه الخير والخصب لأراضٍ تصعب الحياة فيما حولها، عندما انبسط طريقه إلى مثلثٍ يعد أخصب ما أوجده الخالق على سطح الأرض، إن عمل النيل معجزة، ولكن المعجزة تظل معجزةً لفترة محدودة ثم تنتهي، وهذا ماحدث، إن النيل العظيم قد خلق الحياة على أرض مصر، ولكن لأجلٍ معلوم، فالنيل يستطيع أن يوفر الحياة الرغيدة لبضعة ملايين من البشر، ولكنه طبقاً لقوانين الطبيعة لن يستطيع أن يوفر الحياة الرغيدة لأربعين مليوناً منهم، وهذا شيء طبيعي، فالنيل يروي ستة ملايين فدان من الأراضي الخصبة، وكل المحاولات التي بذلت بما فيها بناء السد العالي العظيم، لزيادة هذه الرقعة فشلت في زيادتها؛ زيادةً تتناسب مع زيادة سكان مصر".
وعن الدور الذي لعبته مصر في تاريخ العرب والمسلمين يقول: " منذُ أن حرر العربُ والمسلمون مصرَ من البيزنطيين في عام 641م ومصر تلعبُ دوراً قيادياً في حياتهم، ففي مصر بُني الجامع الأزهر، الذي تحول مع الأيام إلى قلعةٍ دينية أدبية، لعبت أعظم الأدوار في الحفاظ على اللغة العربية من الاندثار في عهد الحكم التركي، ومنذ أكثر من ألف سنة والجامع الأزهر يمدُ العالمَ الإسلامي بعلماء الدين واللغة العربية وهو الذي لعب أهم الأدوار في الحفاظ على التراث العربي الإسلامي أثناء عصور التخلف التي تعاقبت على مصر والعرب".
ويضيف متحدثاً عن فضل مصر على الوطن العربي، فيقول: "كانت مصرُ ولا زالت ملجأ للأحرار من الدول العربية والإسلامية، ومصرُ دون بقية البلاد لا يُرد عن بابها عربي، كما أن شعب مصر حالياً هو المعلم الأول للإنسان العربي، فأساتذة مصر يشكلون العمود الفقري للجامعات العربية، ومدرسوها منتشرون في جميع أنحاء الوطن العربي يعلمون الأطفال العرب القراءة والكتابة، كما أن مهندسيها خططوا ويخططون بهمة لا تعرف الكلل لبناء المدن العربية الحديثة التي بدأت ترتفع مع ارتفاع دخل النفط" وعن دورها السياسي والعسكري، يقول: " يجب أن نذكر دائماً أنه ما من حركة استقلال في البلاد العربية والإسلامية إلا وكان لمصر اليد طولى في مساعدتها، وفي مصر قامت الجامعة العربية التي مهما قيل عنها فهي الأداة الوحيدة المستمرة للعلاقات السياسية والثقافية للأمة العربية، كما يجب ألا ننس أن معركة رمضان التي لعب الجيش المصري أهم أدوارها كانت نقطة التحول في تاريخ المنطقة العسكرية " .
ويُشخص الطريقي مشكلة مصر التي تعاني منها، وأنها ليست مشكلةً وقتيةً، منوهاً بقيمة الفلاح المصري، فيقول: " هذه مصر بالنسبة للعرب والمسلمين جزءٌ لا يتجزأ من تاريخهم وعضو أساس في كيانهم، فمصر بملايينها تشكل أكثر من ثلث تعداد العرب من المحيط إلى الخليج، وفيها الفكر والعلم أكثر مما في أي بلد عربي آخر، ولكنها تمرُ بأزمة اقتصادية حادة أو مرض عضال، فهل يترك العربُ عضواً أساسياً في جسمهم يفتك به المرض دون علاج؟ وهل يترك العرب مصر يأكلها اليأس والفقر والمرض؟ ومصر المريضة مرض لكل الأقطار العربية، فما العمل؟
إن مشكلة مصر ليست مشكلة وقتية، بل هي مشكلة تكونت على مر السنين وقد بلغت أوجها الآن، وكل الحلول الوقتية لا تستطيع حل مشاكل الملايين المصرية أو توفير حياة تليق بآدميتهم لأن مصر بكل بساطةٍ لا تستطيع إعاشة كل أبنائها ومواردها الطبيعية محدودة، وأهم ما في مصر هو الإنسان المصري، فهو أحسن وأقدر الفلاحين، بل هو من أقدر وأفضل فلاحي العالم، والوطن العربي بحاجة إلى تطوير إمكاناته الزراعية، فإذا وجدت الأرض والماء فثالثهما الفلاح المصري، وإذا أردنا صناعة عربية على مستوى الوطن العربي فيجب وضعها على سواحل الأبيض المتوسط، أو سواحل مصر على البحر الأحمر، فموقع مصر الجغرافي يجعلُ من السهل عليها الاتصال بالمغرب العربي الأفريقي وبالمشرق العربي .
وحيثُ تسبح دول الخليج العربي في بحارٍ من النفط، مقابل فقر وعوْز في مصر، يطالب الطريقي بتهجير العمال المصريون إلى بلاد الخليج، يقول: " ومصر لا تتسع لكل الملايين المصرية، ولكن عدد سكان مدن الخليج العربية يُعدُ بعشرات الآلاف ولا يمكن أن تحل مشاكل قلة السكان بدون أن تفقد مدن الخليج طابعها العربي بدون تهجير العمال المصريين إلى مدن الخليج، كما أن قيام صناعات تعتمد على النفط لا يمكن أن يتحقق بدون وجود عمال عرب، لأن منطقة الخليج أصبحت جزراً من الرخاء في محيطٍ من العوز والحاجة، والأقربون أولى بالمعروف، فإما أن نسهل هجرة العرب أو تفقد مدن الخليج طابعها العربي"!

الانفتاح والقطط السمان
عن الانفتاح الذي شهدته مصر، على أمريكيا والغرب، يرى الطريقي أنه كان من بابٍ واحد! وأن نتيجة هذا الانفتاح، تشكّل "قطط سِمان" في مصر، على حساب الاقتصاد المصري، فيقول: " ليسمح لنا الاخوة في مصر أن نتحدث قليلاً عن الانفتاح فقد عاش المصريون في الفترة الأخيرة لا يصدقون ما يطلب منهم تصديقه، وهو أن "واحد+ واحد يساوي ثلاثة" إن المصريين يعرفون أن "واحد+ واحد يساوي أثني" ولكن الانفتاح يحتمُ عليهم أن يصدقوا بأن "واحد +واحد يساوي ثلاثة"& وقد انتظروا المعجزة ولم تتحقق، وعيبُ الذين قاموا بالانفتاح أنهم أصرّوا بأن يكون الانفتاح على الولايات المتحدة الأمريكية وبقية العالم الرأسمالي، علماً بأن مصر تعيش منذُ ربع قرنٍ منفتحة على الدول الاشتراكية، وكان ممكن أن يتم نوع من الانفتاح على العالم كله، ولكن الانفتاح على أمريكا كان من جانب واحد، وبما أن هذا الانفتاح قد أورب البابَ مع الدول الاشتراكية وأغضبها للطريقة التي حصل بها، شعر المصريون بأن الانفتاح على الغرب أدى إلى زيادة متاعبهم حيث شحّت المعاونات الاشتراكية وزادت متاعبهم المعيشية، وكان من المفترض أن يعرف القادة المصريون أن الغربَ يأخذ ولا يعطي وأن الرأسماليين رجالُ أعمال لا مساعدات، ولأن مصر قد استهلكت مواردها الطبيعية ولم تعد سوقاً شرائياً مغرياً، فإن الرأسمال الغربي ترك الباب مفتوحاً ولم يدخل! فالانفتاح كان سياسياً ولم يكن له أثر على الاقتصاد المصري، اللهم إلا نشاط تلك الفئة المقربة من ذوي النفوذ الذين استطاعوا بعلاقاتهم أن يجمعوا الثروات الطائلة في أقصر وقت ممكن، مما جعل الصحافة الأمريكية تطلق على هذه الطبقة "القطط السمان" وهذه أهم نتيجة لهذا النوع من الانفتاح" .
وحين ترتفع الأصوات في مصر، مهددةً العرب، ومطالبةً بأن ترفع مصر يدها من قضايا العالم العربي، يرى الطريقي أن هذا ليس حلاً، فلن يحقق لمصر ما تريد، يقول: " وأرجو من أصحاب الأقلام أن يكفوا عن تهديد العرب بأن تلفوناً واحداً من مصر إلى تل أبيب، يمكنه أن يحل مشاكل مصر، وهذا كلام لا تفكير فيه فمشاكل مصر ليست حربها مع إسرائيل، فإسرائيل لها مطامع في مصر، وحدود دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل، وتليفون من القاهرة لن يمحو خارطة إسرائيل المرسومة على مدخل البرلمان الإسرائيلي، أما من يقول بأن على مصر أن تنسحب من قضايا العرب، فما الذي سيحدث؟ هل ستتغير إمكانات مصر الطبيعية؟ وهل سيقل عدد سكانها؟ وهل ستتدفق الأموال الأجنبية إلى مصر؟ وبأي شيء ياسادة يمكن لهذه الأموال أن تعمل، وها أنتم قد فتحتم الأبواب على مصراعيها ولم تأت أموال الغرب؟
إن هذه الأصوات اليائسة التي تصدر من مصر يجب أن تكون إنذاراً للمخلصين لكي يعملوا على جمع شمل الأمة العربية وتوحيد صفها، وهذا سيساعد مصر على النهوض، لأن مصر الذليلة تجلب معها ذلاً للعرب والمسلمين" !
وحين يكتب الطريقي عن مصر، وأنه إن لم نأخذ بيدها فستقع فريسةً للشيوعية، أو تركع للإمبريالية الصهيونية! فإنه يطرح ما توصل إليه، وأن قوله لم يكن سفسطةً وجهلاً، إنما " وحتى لا يقال أننا نتفلسف ولا يوجد لدينا الأوراق التي تؤهلنا لكي نحكم في هذه القضية المصيرية بالنسبة لمستقبل هذا الجيل من أبناء أمتنا العربية، أريد أن أؤكد أنني بحثتُ هذا الموضوع مع مسؤولين في بلاد النفط ومسؤولين سابقين وحاليين في مصر، وقد ظهر لي بجلاء أن الجانبين يتكلمان بلغتين مختلفتين، فأهلُ النفط ينظرون إلى أهل البلاد العربية الأخرى على أنهم أقرباء لهم ويريدون مساعدتهم، ولكنهم لايقدمون تضحيات كافية تتناسب ومقدار الفرص المتاحة لهم، لمساعدة إخوانهم وأنفسهم في هذه الفترة الحرجة من حياة كل إنسان عربي، وأهلُ النفط مستعدون لأخذ بضع مئات من ملايين الدولارات إلى البلاد العربية كمصر، لإقامة بعض المشاريع الإنشائية التي يمكن اعتبارها من المرافق العامة التي لايمكن أن تدر ربحاً مجزياً على أصحابها، وربما تتعرض للخسارة أو للضياع لأنها تقام في بلدٍ فقيرٍ مضطرة حكومته أن تحدد الأسعار والأجور، كما أن أهل النفط يريدون إقامة صناعات بسيطة في بلد متطور فقير ويريدون أن تضمن الحكومة المحلية ربحاً صافياً على رأس مالهم الموظف، لا يقل عما يمكن أن يحققه رأسمالهم لو كان قد وظف في فرنسا أو إنكلترا مثلاً، وهذا صعب التحقق في بلد كمصر تحاول حكومته الحفاظ على الأسعار في مستوى منخفض ورفع مستوى المعيشة بقدر الإمكان، وهكذا يستمر حوار الطرشان، بعيداً كل البعد عن القضية الأصلية، لأنه يدور بين الرأسمال الخاص في بلاد النفط والقطاع العام في مصر وغيرها".&
ويرى الطريقي أن الحل يكمن في إقامة مشروع مارشال عربي في مصر، على غرار مشروع مارشال الذي أقامته الولايات المتحدة الأمريكية لإنقاذ أوروبا، وفي ذلك يقول:" إن هذه الفكرة عظيمة والعرب بأشد الحاجة إليها"
&&ويرجو الطريقي ألا يؤخذ كلامه في مطالبته بإقامة مارشال عربي، على إنه إنكار للمجهودات القيّمة التي يقوم بها جلالة الملك فيصل وسمو أمير الكويت ورئيس دولة الإمارات العربية والرئيس القذافي والرئيس أبو مدين، إنما يريد الطريقي أن يؤكد على أن المساعدات الفردية مهما كبرت لا تكفي، وهي مثل من يحاول علاج مرض السرطان بالأسبرين! "حقيقة أن هذه المساعدات قد تخفف بعض الألم ولكن الموت حتماً حاصل".
يختم الطريقي حديثه الطويل عن مصر، بقوله: "إن لم نعي لخطورة الموقف كأمةٍ وكأقطار، فإن النتيجة الحتمية لمثل هذه السياسات، هي تركُ مصر تسقط في أحضان المتطرفين من الشيوعيين أو التسليم بشروط أمريكا وإسرائيل، والخيار هنا صعب، فمصر هي الصخرة التي تحطم عليها عنف الغزاة البرابرة التتار وعنجهية الصليبيين".&
&&
&
&
الحلقة الثانية:
&&
الحلقة الثالثة:
&
الحلقة الرابعة
&
الحلقة الخامسة
&
الحلقة السادسة
&
الحلقة السابعة
&
الحلقة الثامنة
&
الحلقة التاسعة&
&
الحلقة العاشرة
&
الحلقة 11&